Wednesday 22 June 2016

الجغرافيا السياسية وأنعكاسها على المنطقة العربية

كنت قد قدمت محاضرة في المنتدى العربي بتاريخ 3/11/2015 حول الجغرافيا السياسية ولم أدفع بها للنشر ولكن الأحداث اليوم تؤكد بعض ما قلته حينها.















Thursday 17 March 2016

الإسلام والعروبة


الإسلام والعروبة
 توفيق شومر


نشر لأول مرة في عام 2008  

 بالرغم من الكتابات الكثيرة التي تناولت موضوع العلاقة بين العروبة والإسلام إلا أنه وخلال العقدين الأخيرين بدأت هذه الفكرة تخبو من العقل الجمعي العربي. القضية المحورية التي أريد أن أركز عليها هي أن العلاقة بين العروبة والإسلام ليست فقط علاقة فكر بلغة، فالإسلام هنا ليس فقط ديناً يستخدم العربية كلغة تخاطر رئيسية، بل هناك بعد آخر يقبع في الخلفية الثقافية والحضارية المترافقة مع التزاوج بين الإسلام والعروبة.
        فعلى الرغم من الانتشار السريع للدين الإسلامي بين ثقافات وحضارات مختلفة في العالم أجمع، إلا أن التزاوج الذي ترافق بين الإسلام والعروبة على المستوى الحضاري لم يتكرر في حالات أخرى.
        فلنأخذ على سبيل المثال الحالة الباكستانية. فعلى الرغم من انتشار الإسلام في باكستان وعلى الرغم من اعتناق الشعب الباكستاني للإسلام، إلا أن الإسلام في باكستان هو للحضارة الباكستانية مركب ديني مستقل عن المركب الحضاري الثقافي المسيطر في المجتمع الباكستاني. فالعادات والتقاليد السائدة على الرغم من تأثرها بالإسلام إلا أنها ما زالت تحتكم إلى العادات والتقاليد السائدة في المنطقة. ولذلك فمن الممكن وبسهولة، أن يكون هناك تقارب بين سكان الهند والباكستان أكثر منه بين سكان باكستان وسكان دولة إسلامية أخرى.
        وتتكرر هذه الحالة في اندونيسيا وأفغانستان وإيران وغيرها من الدول الإسلامية غير العربية. فنجد على سبيل المثال أن الشعب الإيراني يحتفل بالنيروز، وهذا الاحتفال بالرغم من علاقته بالديانة المجوسية القديمة في إيران، إلا أنها لم تختفِ مع دخول الإسلام. وهنا الاختلاف حضاري، لا ديني. فالشيعة العرب في لبنان والعراق لا يحتفلون بهذا العيد.  إذن هو ليس مرتبطاً بتفسير شيعي للاحتفال وإنما هو احتفال حضاري يرتبط بالحضارة الفارسية. ونرى أيضاً أن كثير من مظاهر الحضارة الفارسية قبل الإسلام ما زالت تعشعش في الذهنية العامة للشعب في إيران. ففي منطقة شيراز، وهي معقل الحكم في ظل الحكم الفارسي قبل الإسلام (منطقة تخت أمشيد) نرى حتى اليوم أن الشعلة المجوسية ما زالت تشعل.     
        لقد نزل الإسلام في جزيرة العرب، فخاطب أهل الجزيرة بما يعرفونه من عادات وتقاليد ورفع الحسن منها ورفض السيئ بها، وطور الكثير منها لتتناسب مع الدين والدعوة. وعندما نحلل هذه الحقيقة ندرك أن الخطاب الإسلامي تبنى البعد الثقافي العربي كخلفية ضرورية لخطاب أهل الجزيرة، ولذلك فقد رأينا وبشواهد كثيرة خلال فترة انتشار الإسلام السهولة التي انتشر بها خلال المنطقة الناطقة بالعربية بالمقارنة مع الصعوبة التي واجهته في المناطق غير العربية.
        هذا البعد الحضاري الثقافي للعلاقة بين الإسلام والعروبة يبرز بشكل كبير في كيفية تعامل أصحاب الديانات الأخرى في المنطقة العربية مع الدين الإسلامي. ففي حالات كثيرة انضوى هؤلاء تحت راية الإسلام في الحرب ضد غير العرب. ولذلك فمن الطبيعي أن نجد أن المسيحي العربي مثلاً، كان تاريخياً ينسجم في العادات والتقاليد مع العربي المسلم أكثر من انسجام المسلم غير العربي مع المسلم العربي.
        الترابط بين العروبة والإسلام ترافق أيضاً مع نهضة الحضارة العربية الإسلامية وقدرتها على التواصل والنمو والازدهار. وليس مستغرباً بالتالي أن هذه الحضارة بدأت بالتراجع والانحطاط مع سيطرة غير العرب على مقاليد الحكم فيها، حيث بدأ هؤلاء يهابون التلاحم بين الإسلام والعروبة ويحاولون بشتى السبل كسره، وتحويل الإسلام إلى شكله الديني غير المتوافق أو غير المتلاحم مع العربية كحضارة وتراث. ونجد أن هؤلاء قد قاموا بقمع الشعب العربي والحضارة العربية وبدأ التراجع في تعليم العربية في كثير من المواقع، وبرزت هذه الحركة في أوجها على يد الحكم العثماني الذي أدخل التركية إلى لغة التعامل الرسمي، والذي قضى على التعليم العام الذي كانت تقوم به المساجد، حتى أصبح من يتقن العربية والكتابة والقراءة هم صفوة بينما الشعب جاهل.     
        وقد ساهم العرب بكل قطاعاتهم ومشاربهم، مسلمين وغير مسلمين في النهضة العربية وببعث الحياة في الثقافة والحضارة العربية، وبالأخص خلال القرن التاسع عشر وبعد حكم محمد علي. فشهد الوطن العربي عودة إلى دراسة التراث العربي الإسلامي، وإلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين العروبة والإسلام التي حاول كثيرون عبر قرون تحطيمها. وحققت هذه الحركة نجاحات كبيرة وبشكل سريع مما يؤكد أنها لم تكن وليدة الصدفة أو بدعة حديثة وإنما هي بعث لأفكار لطالما شكلت الموروث الثقافي والحضاري للأمة العربية.
        ولكن وللأسف الشديد، وخلال العقدين الأخيرين بدأنا نرى هجوماً متواصلاً على هذا التلاحم بين العروبة والإسلام ومن مواقع كثيرة، قد يظهر بعضها بمظهر من يريد أن يؤكد على عالمية الإسلام، لكن جوهرها جميعاً، بما فيها تلك التي تؤكد على عالمية الإسلام، يتلخص  بضرب العلاقة التاريخية بين العروبة والإسلام. وليس القصد من هذه السطور معارضة فكرة عالمية الإسلام، إلا أن قضية الإسلام عربياً تتجاوز الدين إلى الدين والحضارة. وبالتالي فتأكيد العلاقة بين العروبة والإسلام هو تأكيد لانتماء أبناء هذه الأمة بكل مشاربهم وطوائفهم إلى الحضارة العربية الإسلامية وإلى الإسلام كحضارة بغض النظر عن دينهم أو أصلهم. فالعروبة كما نؤكد دائماً هي شعور قومي ثقافي لا عرقي. وعندما يتم التأكيد على عالمية الإسلام في ظل تفكك الأمة العربية فإنما يراد من ذلك ضرب فكرة الوحدة العربية لأنها الفكرة الممكنة والواقعية التي يهاب منها، بينما فكرة الوحدة الإسلامية غير ممكنة واقعياً في عالم اليوم انطلاقاً من الاختلافات الثقافية والحضارية التي تحتكم لها الدول الإسلامية.
        أما على الطرف الآخر فنجد النزعات الطائفية والعرقية تحاول أن تفك العلاقة بين العروبة والإسلام في مقابل الإدعاء بأن غير المسلمين من العرب ليسوا جزءاً من النسيج المشكِل للحضارة العربية الإسلامية أو أنهم "مظلومون" في ظل سيطرة الإسلام. وبالتأكيد فهذا الشعور مدسوس من خلال عمليات إعلامية ظلامية مستمرة عبر عقود. وبالرغم من قوة وضخم واندفاع هذه الآلة الإعلامية، إلا أنها لم تتمكن بعد من الوصول إلى التفكيك التي تريده، وما زال العرب بكل طوائفهم مقتنعين بالترابط المتلازم بين العروبة والإسلام.


Saturday 13 February 2016

اللغة أداةً لتعمية المعرفة

اللغة أداةً لتعمية المعرفة
19/8/2005

 د. توفيق شومر
      اللغة، هي وسيلة الاتصال الأولى بين البشر، وهي أداة التخاطب وهي معين تطور الأفكار. لقد بدأ التخاطب بين البشر باستخدام مجموعة من الأصوات التي تشابه الأصوات الموجودة في الطبيعة، ثم تطور أسلوب التخاطب فاستخدم مجموعة من الأشكال المعبرة عن موجودات الطبيعة. لم يكن الإنسان البدائي يحتاج أكثر من ذلك لإيصال ما يفكر به من احتياجات أساسية لغيره من البشر، ولم تكن بعد تعقيدات الحياة قد دخلت قاموسه.
      مع بدء تحول المجتمع إلى المجتمع الطبقي، أو مع ظهور تقسيم العمل البدائي بدأت المجتمعات البشرية ترسي أسس لغاتها، أو لنقل جملة الحروف والمفردات التي ستلعب الدور الأساسي في انتقال المعرفة من معرفة مباشرة لموجودات الطبيعة، إلى معرفة عن موجودات الطبيعة.   وكان من الطبيعي بعد أن وجدت وسائل التخاطب السهلة (اللغة)، أن ينتقل المجتمع البشري إلى انتاج مفاهيم خاصة، باعتبار أن اللغة هي الأداة التي بها يتمكن الفكر من تجريد الواقع.
      وبرزت الأسطورة كأول شكل من أشكال التركيب المفهومي، والتي بها بدأ الإنسان يتعالى عن احتياجاته الجسدية المباشرة إلى احتياجاته الذهنية، وأدى تطور الأسطورة إلى نشوء الأفكار الفلسفية والدينية والعلمية في المجتمعات السياسية التي تشكلت في مرحلة متقدمة من التطور البشري. وبذلك تكون الأسطورة عبارة عن الشكل الجنيني للفكر الناتج عن بدء تشكل المجتمع المدرك.
      لتوضيح ما أقصد فإن المجتمع الإنساني بدأ يدرك علاقاته الإنتاجية منذ أن اتضحت فكرة تقسيم العمل الاجتماعي وبالتالي اتضح الدور المنوط بالفرد في المجتمع وترافق مع هذا الإدراك تطور في استخدام اللغة لتتناسب مع التطورات الاجتماعية الطبقية، وبالتالي السياسية، للمجتمع البشري. ومن الواضح أن مجتمعاً طبقياً على الرغم من بدائيته يحمل بداخله التناقضات الكامنة بين علاقات الإنتاج وقوى الانتاج. وسواء كان هذا التناقص مدركاً ذهنياً أو غير مدرك، فإنه سيؤثر على أي منتج ذهني مرافق له.
      وانطلاقاً من ذلك فإن التركيبات اللغوية التي ترافقت مع هذا التطور، والأشكال الفكرية التي ساعدت في تبلور هذه التركيبات ، كانت محتكمة للتناقض القائم في المجتمع، فكان من الطبيعي أن تحمل اللغة في طياتها تناقضات الواقع المعاش لأنها إن بشكل مباشر أو غير مباشر عبارة عن انعكاس لهذا الواقع.
      وإذا امعنا النظر بالفلسفة اليونانية وهي إحدى أوائل النشاطات الإنسانية الذهنية الواعية نجد أنها حملت بداخلها تناقضاً بين مدرستين فلسفيتين ستستمران بالتأثير على الفكر الإنساني طويلاً هما المدرسة المادية (ديمقريطس والايونيين وابيقور) والمدرسة المثالية بفرعيها المثالية المتعالية (افلاطون) والمثالية الهابطة إلى الأرض (ارسطو)، وأن عدنا إلى الوراء قليلاً لنبحث في أساطير الشرق المتوسط خلال الفترة السابقة لتشكل الفكر الفلسفي لوجدنا داخل التركيبة الأسطورية تناقضاً بين مثالية غير ناجزة ومادية غير واضحة. فإن كانت الغلبة حينها للفكر المثالي، فهذا طبيعي نتيجة لسيطرة طبقة (الأسياد) في المجتمع، والتي رأت في الفكر المثالي التبرير الكافي لسيطرتها الطبقية.
      ومع استمرار تطور المجتمعات وظهور الفكر الديني، وتحوله إلى أن يكون الشكل الفكري المرافق للسيطرة الطبقية إن في روما القيصرية أو في غيرها من البلدان التي اعتمدت على الفكرة الدينية في إحكام سيطرتها السياسية. وخلال مجمل هذا التطور الفكري السياسي، تطورت اللغة وحملت قوانينها وتركيباتها وتعابيرها التي بالضرورة أصبحت متشبعة بالأفكار والتركيبات المثالية والتعابير المثالية، وبالتالي أصبح المجتمع أسيراً لهذه المفاهيم وأصبحت مع الوقت امكانية تحريكها وتعريتها أمامه عملية معقدة وصعبة، وستنحصر مع الأيام بمجموعة من الأشخاص الذين يستغلون بالعمل الذهني.
      فالكثير من المفاهيم التي أقحمت في التركيبات اللغوية، تعبر عن وضع مثالي طبقي من نوع ما كتعابير (عدالة، حرية، ديمقراطية) لأنها لم تكن لتظهر إلا كنتيجة للواقع الطبقي للمجتمع، ولطبيعة الفكر المثالي المسيطر، وحتى لو اتخذت هذه الألفاظ طابعها المدافع عن حقوق معينة في فترة نشوئها. ولم يكن هناك ضرورة لنشوئها إلا نتيجةً لغياب مردوداتها في المجتمع الطبقي، أو لنقل غياب ما تعبر عنه، فوجب نشوؤها رداً على النقيض السائد. ومن ناحية ثانية، نجد أيضاً مفاهيم تعبر عن حاجات دينية (أسرار، لاهوت، جوهر، مكنون)، وأخرى تعبر عن أشكال خاصة للسيطرة (اوتوقراطية، ثيوقراطية). فأضحت جملة المفاهيم مجتمعة والتي تتشكل منها اللغة هي مفاهيم تشكل في غالبيتها مفاهيم مثالية منتجاً للسيطرة السياسية لهذا الفكر المثالي.
      والآن ونحن ننظر لهذا التطور التاريخي للغة ما زلنا نستخدم التراكيب اللغوية والمفاهيم نفسها, وكأنها أصبحت جزءاً من الواقع الموضوعي لا جزءاً من منتج فوقي تطور تاريخياً ضمن الظروف العامة لتطور المجتمع البشري.
      ولذلك وفي كثير من الأحيان وإن لم ندقق في ما تقوله اللغة بشكل مستتر، وإن لم نعن خطورة بعض التركيبات اللغوية والتعابير المفهومية سنقع بالتعمية المعرفية التي تقوم بها اللغة، وإن بغير قصد منا.

      وللتغلب على هذه الصعوبة، التي أصبحت بعد ثلاثة آلاف عام من نشوء اللغة جزءاً من التركيبة الاجتماعية، أقول بأن علينا أن نقوم بتغيير جذري للتركيبات اللغوية وإعادة نظر شاملة بجملة الأدوات المفهومية حتى نتمكن من تخليص اللغة من المفاهيم الميتافيزيقية التي تشبعت بها، وبالتالي، ومن خلال عملية المراجعة والتغيير هذه سنتمكن من إدراك ما هي المفاصل اللغوية التي لا تحمل بداخلها أفكاراً قبلية عن سيطرة مثالية عن تلك التي تحمل، وبهذه العملية المعقدة جداً نستطيع أن نحاكم معرفتنا إن هي معرفة عن الواقع أو هي معرفة عن رؤيتنا الخاصة للواقع.

Friday 5 February 2016

هل يمكن للفكر أن يحيا من أجل الفكر؟ ....... إنه سؤال العلماء العرب المسلمين الأوائل

 
هل يمكن للفكر أن يحيا من أجل الفكر؟

  د. توفيق شومر
     
كيف تعامل العلماء العرب – المسلمون، خلال حقبة النهوض العربي – الإسلامي، مع الحضارة الانسانية التي سبقتهم أو تلك التي عاصروها، وكيف كان أسلوب المفكرين والمثقفين العرب في مرحلة النهوض الثانية أو ما يعرف بعصر النهضة وما بعده؟  
      أدرك العلماء العرب – المسلمون المعرفة التي توصلت إليها حضارات أخرى مهمة وأساسية في مختلف العلوم، ولكي يستطيعوا التواصل مع تلك المعارف، يجب أن يقوموا بفهمها وهضمها لكي يضيفوا إليها ويكملوا من حيث انقطع غيرهم.
    
فكيف تعامل العلماء ، إذن ، مع هذه المعارف والحضارات؟        
      قام العلماء العرب – المسلمون بعملية نقل وترجمة واسعة لمعارف عصرهم من اللغات اليونانية والفارسية والهندية وغيرها، إذ أنهم أدركوا أهمية أن تكون هذه العلوم موجودة باللغة العربية، للمساعدة على فهم هذه العلوم من قبل طالبي العلم أولاً والعوام عامة. ويلاحظ خلال عمليات الترجمة ترافقها مع شروح خاصة للمترجمين عن مفاهيم وفروع العلوم المترجمة، والظروف التي كُتبت فيها إن كانت معروفة.   
      وقد استخدم العلماء العرب – المسلمون هذه العلوم بتصرف وبسطوها بحيث تكون في متناول كل من يحتاجها. وكذلك نجد أن اهتمام العوام بتحصيل ما يستطيعون فهمه ساعد في أن يدفع العلماء إلى مزاوجة هذه العلوم المترجمة مع التراث العربي والحضارة الاسلامية، بهدف جعلها محايثة للواقع المعاش فلا يشعر طالب العلم باغتراب عند مطالعتها.
      ويلاحظ أنه دخلت في بعض الأحيان بعض المفاهيم الحضارية إلى المجتمع وامتزجت بالحضارة العربية- الإسلامية من دون أن تحدث أي إرباك من حيث أنها مفاهيم "غير أصيلة" في المجتمع. فإن كان استمرار بعضها انحصر في مجموعات ضيقة، في ما بعد، نتيجة لأحداث سياسية معينة فذلك لا يفيد بأنها كانت غريبة عن المجتمع حينها. ومن الأمثلة الكثيرة في هذا الصدد أورد فقط مثالي المتصوفة والبابكية. فالمتصوفة تأثروا بالروحانيات وعلومها التي عرفوها من الهند، ولكنهم أخضعوها للتعديل والنقد حسب آلية فهمهم للتراث الإسلامي. وبذلك جانسوا ما بين تلك الروحانيات وبين تعاليم الدين. فنجد ابن عربي يركّز على العلاقة بين الأسماء وأصحابها ومعاتي هذه العلاقة تماماً كما تركز عليها الديانات الهندية القديمة، لكنه لم يستخدم المفهوم كما هو إنما استخدمه لتحليل أسماء الله أولاً ثم أسماء الأنبياء وهكذا. أما عن البابكية فمعروف أنها كانت متأثرة بالتعاليم المزدكية القديمة وأنها حاولت التوفيق ما بين التعاليم المزدكية وتعاليم الإسلام.
      لم يشعر العلماء العرب – المسلمون بضعف أو إهانة عندما استخدموا بحريّة علوم الحضارات الأخرى، إذ أنهم كانوا يدركون حدود العلاقة وطبيعتها بين تلك العلوم والحضارات وبين الحضارة والعلوم العربية – الإسلامية. ولذلك لا يجد ابن سينا أو الفارابي أو ابن رشد أي ضير في وصف افلاطون أو أرسطو بالمعلم. ولم يصفوا يوماً أفكار الإغريق بأنها "فكر مستورد".   
     
ماذا عن مرحلة النهضة وما بعدها؟      
      لقد ابتدأت العملية النهضوية بشكل جيد، إذ نجد أن مفكري عصر النهضة قد استجابوا لمتطلبات العصر واهتموا، وإن بشكل محدود، بإدخال المفاهيم التي استقوها من الحضارة الغربية إلى جسم الوعي العربي. لكن، للأسف، تحولت هذه العملية مع الوقت إلى عملية شكلية لنقل العلوم بصورة أكاديمية تعتمد الأسلوب ذاته المستخدم في بلدانها. وعلى رغم شكلية عملية الترجمة والنقل فإنها بقيت ضعيفة ومحدودة. وبرزت العلاقة ما بين الفكر والتراث العربي وبين الفكر الغربي على شكل "اشكالية" ، فهي للبعض اشكالية الأصالة والمعاصرة ولآخرين اشكالية العلاقة بين الإسلام وأعداء الإسلام أو اشكالية "الجوّاني والبرّاني" وهكذا ، حتى أصبح أي فكر غير مرتبط بالموروث التراثي فكر مستورد.       
      كانت العلاقة بين العلماء العرب المسلمين ومجتمعهم، كما قلنا، علاقة ادغام وتواصل، أما علاقة المثقفين والمفكرين العرب الآن مع مجتمعهم فعلاقة انقطاع واغتراب. حتى المفكرين الذين يقولون ببعث الموروث الحضاري العربي – الاسلامي فهم أيضاً لم يجدوا حالة تواصل مع مجتمعهم لأنهم يتعاملون، بالضبط مع التراث بالطريقة نفسها التي يتعامل غيرهم فيها مع الفكر الناتج عن حضارات أخرى.
      إن التواصل مع ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الآن من علم ومعرفة ومن علاقات فكرية وحضارية، يتم من خلال الفهم الاجتماعي لطبيعة هذا التطور ومعانيه. ولا يكون ذلك إلا عبر نقل لهذه العلوم ليس فقط من حيث هي علوم بل أيضاً نقل ملامحها الحضارية وارتباطها بطبيعة التطور الاجتماعي للمجتمع الذي أُنتجت فيه، وربطها من ثم بالواقع الحضاري العربي لكي تكون مفهومة ليس فقط للمختصين إنما أيضاً (وبروحها العامة كعلوم على الأقل) لمن يطلبها.
      والاحتكاك مع الفكر الانساني بآخر ما توصل إليه في سجاله المتواصل، أمر له الأهمية ذاتها التي هي للتواصل مع العلوم البحتة. وهذا الاحتكاك لن يؤدي بنا بالضرورة إلى محو تراثنا وما أنتجه من فكر عريق، بل سيؤدي إلى عملية من التزاوج قد تنتج جديداً يستطيع التواصل مع الجسم الاجتماعي العربي. وقراءة الفكر المنتج من قبل الحضارات الأخرى إضافة إلى قراءة التراث يجب أن تكونا انطلاقاً من فهمنا لاحتياجات الجسم الاجتماعي وباحتكاك مباشر معه لكي يتفاعل ما ينتج عن هذه القراءة مع الواقع المعاش، فالفكر لا يمكن أن يحيا من أجل الفكر.
      تتردد أقوال كثيرة هنا وهناك، وفي كثير من الأحيان، أن العوام في المجتمع العربي لا يستطيعوا استيعاب الفكر المنتج، ولذلك فهم يهربون إلى ما يستطيعون فهمه. وإلى الطرف الذي لا يحتاج منهم إلى عناء التفكير. لكن ليس هذا هو الوضع، فما يحدث حقيقة أن ما ينتج من فكر ينتج في حالة اغتراب عن واقعه في أكثر الأحيان، وإن لم تكن هذه هي الحال فإنه يسعى لتغييبه ولتغريبه من قبل الأجهزة المرتطبة بآلة الإعلام الغربية، وبهدف إبقاء الحال على ما هو عليه، لأن في ذلك مصلحة للآلية الاقتنصادية المسيطرة عالمياً.    
      فالديموقراطية، مثلاً، لا يمكن أن تصبح جزءاً من وعي الناس إلا بعد أن يمارسوها ويعرفوا معانيها وما ترمي إليه من خلال احتكاكهم ومعايشتهم للحياة الديموقراطية، وليس فقط من خلال سماعهم عنها في الإذاعات من دون رؤية مردوداتها في الواقع. الشعوب الأوروبية لم تخلق ديموقراطية وإنما تطور وعيها بها من خلال ممارستها.    
      إن عملية البعث الحضاري للحضارة العربية – الإسلامية في القرن العشرين لا تكون باستنساخ أفكار العلماء والفلاسفة العرب – المسلمين في القرن التاسع، ولكن بإعادة انتاج الفكر على ضوء علاقته بالحضارة والفكر الإنساني في أعلى مراحل تطوره، وإدغامه بالمجتمع عن طريق التعامل مع معطياته. هذا، بالضبط ما قام به العلماء العرب المسلمون في مرحلة النهوض الأولى ولذلك تفوقوا وأبدعوا، فهل نبدع ونتفوق؟!

Thursday 28 January 2016

الدين والدولة والسياسة

مقال نشرته في 26 أيار من 2008 في صحيفة الغد الأردنية وللأسف فأن بعض ما كنت قد توقعته من مخططات أمبريالية أصبح اليوم جزء من الواقع العربي.

الدين والدولة والسياسة؟

د. توفيق شومر

يبرز اليوم في بعض الدوائر الثقافية سوء فهم لمفهوم العلمانية وعلاقتها بالدولة. فالكثير من الكتاب يخلطون بين فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة. وهناك اختلاف كبير بين المفهومين. فصل الدين عن الدولة -أي دولة- ضروري لتثبيت حياد الدولة في علاقتها مع مواطنيها بغض النظر عن معتقداتهم وإيمانهم. وهذا ضروري وبالأخص في الوطن العربي والذي يحتوي على العديد من التفرعات العقائدية والدينية والمذهبية. ومفهوم ربط الدين بالدولة هو مفهوم تفكيكي فرض علينا في الوطن العربي من خلال القوى الاستعمارية والإمبريالية بشكل عام، فالإسلام مثلا ليس مشروعا سياسيا بل هو مكون أساسي ثقافي واجتماعي في المجتمع العربي قبل ان تنجز الدولة الحديثة.
لكن ولكي يتم تبرير نشوء ووجود الكيان الصهيوني الديني العنصري لا بد من أن تتشكل حوله مجموعات من الدول الدينية العنصرية المتفككة والفسيفسائية لكي يصبح وجوده ككيان مبرر ضمن محيطه. وهذا بالضبط مثلاً الغرض من مخططات الشرق الأوسط الجديد والذي يتشكل بشكل أساسي من دول أساسها ديني كمثل ما يقترح اليوم من "قرار غير ملزم" من الكونغرس الأمريكي لتفكيك العراق إلى ثلاث دول: كردية وسنية وشيعية. وهذا ليس المثال الوحيد للتفكيك فما يرتب للمنطقة بحسب المخططات التفكيكية المعروفة للجميع أن يصبح هناك دولة سنية ودولة علوية ودولة درزية ودولة مارونية ودولة مسيحية ودولة شيعية في بلاد الشام بدلاً من الدول القائمة الآن. وغير مستبعد أن يظهر لنا قريباً من يقول بضرورة تشكيل دولة شيشانية ودولة أرمنية ودولة أفغانية من الأقليات الموجودة من هذه الدول في بلاد الشام.
وأفريقيا العربية ليست بأحسن حال في برامج التفكيك هذه. فمصر يجب أن تفكك إلى مصر قبطية ومصر سنية، ولا مانع من أن يكون هناك دولة إسماعيلية أيضاً، والسودان يفكك إلى دولة مسيحية وأخرى مسلمة وثالثة قبائلية، والجزائر والمغرب إلى دول أمازيغية ودول عربية وغيرها من محاولات التفكيك المختلفة. ولكن الهدف الأساسي من كل هذه المحاولات هي ضرب مفهوم الأمة العربية المتميز والذي يبنى على أساس حضاري لا على أساس عرقي.
في المقابل يصعب الحديث عن فصل الدين عن السياسة فالسياسة مركب أساسي في كل المكونات الفكرية لأي مجتمع وبالتالي فلا يمكن أن نفصل الديني عن السياسي. ولكن يجب على القوى الدينية العاملة في السياسة أن ترفض عقلية التقسيم الغريبة عن عقيدتنا العربية منذ وحد الإسلام هذه المنطقة.
المنطقة العربية كانت تنضوي تحت دولة الحكم ولكن الإسلام كحضارة كان شعارها لا الإسلام كدين. ودلالات ذلك في تاريخنا العربي كثيرة فالوزير الأول في العديد من الحكومات العربية في عهد الخلافة العربية منذ الراشدين إلى العباسيين كان غير مسلم، وفي ذلك اعتراف أن الدولة لكل مواطنيها والدين للمؤمنين به.
فصل الدين عن الدولة ضرورة سياسية ومجتمعية في عالمنا العربي. فالقبطي عربي قح قبل أن يكون الإسلام وبعده. والمسيحي العربي ينتمي لهذه المنطقة منذ آلاف السنين وهو ليس صنيع أي قوة أجنبية، والشيعي والسني ما هم إلا أحفاد الذين اختلفوا في موقعة صفين من العرب حول الموقف من الخلافة (الخلاف بين علي ومعاوية). أما الكثير من الأقليات الأخرى الموجودة في المجتمع العربي فهي اليوم عربية بغض النظر عن أصولها ومنابتها. فالمنطقة العربية احتضنت كل مضطهَد قادم من أي موقع، ولا يوجد في الاسلام أي عصبية والثقافة الاسلامية ترفضها، وهؤلاء اندمجوا في المجتمع العربي، وأصبحوا يعلنون انتماءهم للحضارة العربية الإسلامية.
وبالتالي فلنحدد اليوم العلاقة بين هذه المكونات الأساسية في المجتمع العربي على مختلف أسسها ودياناتها ومذاهبها لا على أساس التفكيك الذي يفرض علينا من القوى الاستعمارية بل على أساس الوحدة والقناعة بفصل الدين عن الدولة. ونحن بذلك نصحح الخطأ الذي تقع به دولتان في محيطنا في اتخاذهما الدين كأساس للدولة وهما: دولة الكيان الصهيوني والدولة الإيرانية. 
أما عن القوى الدينية في السياسة فما دامت هذه القوى تقر بعلمانية الدولة وبأحقية كل مواطنيها بالانتماء إليها فإن رفع الشعار الديني لن يكون عائقاً في العمل السياسي؛ ففي الاختلاف والتنوع قوة لا ضعف، وكل يقدم برامجه التي تفيد المجتمع ككل لا البرامج التفكيكية. وهنا لا بد من التنبيه للأقوال التي يتفوه بها بعض ممثلي التيارات الدينية السياسية كقول أحدهم في مصر "نحن نرحب باستضافة الأقباط في مصر" فنقول له من أنت لتقول للأقباط المصريين العرب الأقحاح إنهم مرحب بهم في مصر؟ الأقباط مكون أساسي في مصر ومواطنتهم يستمدونها من وجودهم التاريخي في مصر لا من منحة يعطيها أحد لهم.
وفي النهاية نؤكد أن الحل الأمثل في مواجهة مشاريع التفكيك في الوطن العربي تنطلق من الوحدة العربية المبنية على أسس انتماء جميع مكونات هذا النسيج إلى الأمة الواحدة وبالاعتراف بضرورة وجود دولة تنفصل عن الدين لتكون دولة لجميع مواطنيها.

Friday 22 January 2016

تأويل النص الديني

التأويل والحداثة
د. توفيق شومر

أي نص ديني هو نص مقدس لمعتنقي الديانة التي يعبر عنها. وهو بهذه الصفة نص مطلق غير قابل للنقاش يدافع عنه المؤمنون به بحيث لا يترك أي مجال للتفاهم حول بعض المسائل المحورية التي يقر بها النص. وحتى يكون النص الديني سرمدياً يمكّن أفراد المعتقد الديني من الإيمان به في كل زمان ومكان يستلزم أن يتضمن إقراراً بأنه نص صالح لكل زمان ومكان. والمعضلة هنا أنه نص يخاطب في الأساس عقول البشر أيضاً، وبالتالي فيجدر على النصوص الدينية أن تكون قد كتبت بلغة تتناسب مع عقول المتلقين للرسالة الدينية. فالنص الديني المقدم قبل ثلاث آلاف عام لا يمكن أن يستخدم الخطاب نفسه الذي يستخدمه النص الديني المقدم قبل ألفي عام، وسيختلف بالضرورة عن النص المقدم قبل أربعة عشر قرناً.
إذ أن المعرفة في تلك الأزمنة كانت محدودة، والبشر غير قادرين على استيعاب علوم القرون السابقة، فكيف هي الحال بعلوم اليوم. بالمقابل فالله بالتعريف كلي المعرفة، يعرف علوم اليوم والأمس قبله وكل علوم المستقبل. فلماذا لم ينطق النص الديني بأي من هذه العلوم؟ الجواب أبسط من أن يُبحث فيه، فلو أن النص الكتابي على سبيل المثال، خاطب عقول الأمة بأن الإنسان سيكون قادراً وهو جالس في بيته أن يخاطب ويرى شخصاً آخر في أقصي المعمورة دون أن يحتاج لأن ينتقل من مكانه قيد أنملة، لما صدقت البشرية الرسل.
لذا لا بد من احتواء النصوص الدينية على مستويات من الخطاب، مستوى مباشر يصل عقول وأذهان البشر في الزمن الذي يقدم فيه، ومستوى آخر يستطيع أن يعطي خطاباً عاماً يمكن تأويله فكرياً وفلسفياً لكي يصلح لكل زمان ومكان. ومستوى ثالث قد لا يكون بمقدور البشر تفسيره وتأويله، إذا ما قلنا أن المعرفة الكلية عند الله أبعد من أن يستطيع البشر الوصول إليها.
هذا يعني أن البحث في أغراض ومعاني وأهداف الخطاب الديني يجب ألا تتوقف أبداً. وهذا يعني أيضاً أن المفسرين الآوائل للنصوص الدينية لا يمكنهم بأي حال أن يكونوا قادرين على تفسير النص الديني كما يجب أن يفسر. فالعلم الذي توافر عند المفسرين الآوائل لا يمكن أن يرتقى إلى جزء مما نعرفه اليوم.
قد يقول البعض أن علوم الدين تختلف عن العلم بظواهر الطبيعة، وبما أن الاهتمام بالدين كان عند العلماء الآوائل أفضل من الاهتمام بالدين اليوم، فهذا يعني أنهم أكثر قدرة على فهم أمور الدين من الذين يحاولوا تأويله اليوم. وأقول لا انفصال بين فروع العلم، كما أن هناك قضايا خاصة منها قدرة الإنسان، وعقله، وخبراته، وتأثير هذه الخبرات وكيف ننظر إلى المعرفة وإلى الإدراك وغيرها من القضايا الشائكة والتي وصلنا إلى معارف فيها تفوق حد الوصف ما كان يعرف سابقاً وترتبط بشكل وثيق بعلوم الدين، وبالتالي فالفهم الديني بحاجة إلى إعادة نظر في كثير من قضاياه.
أذن فإن التبرير لفتح باب الاجتهاد والتأويل مرة أخرى يتعدى القول بالضرورة لأخذ موقف من قضايا لم تكن معروفة سابقاً كالاستنساخ أو القتل الرحيم، إلى القول أن ما كنا نعرفه سابقاً بالارتباط مع كل القضايا المعرفية لا يمكن مقارنته بأي حال مع ما نعرفه اليوم. وبالتالي فإن التفسير والتأويل للنص الديني الذي قدمه فقهاء وعلماء الدين سابقاً لا يمكن بحال أن يرقى إلى المستوى الشافي لتشاؤلاتنا.
أما الحداثة فكما نعرف هي موقف فلسفي يتميز بإعمال العقل في القضايا التي تواجه الإنسان، بالاستناد إلى السببية التي تربط بين الأحداث في العالم وأسباب واضحة لهذه الأحداث التي تنتمي بشكل أساسي إلى هذا العالم لا إلى عوالم غيبية. وهي تقر بأننا نستطيع أن نعرف مكنونات هذا العالم مهما بلغت التعقيدات التي تترافق مع هذه المعرفة. ولكي نصل إلى هذه المعرفة لا بد لنا من أن نستخدم عقولنا لا أن نعتمد على أن معرفة خارجية، فكما نعرف أن باب الوحي أغلق منذ وفاة الرسول. ولذلك فالأمور الميتافيزيقية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا تأسست على العقل أولاً.
وعلى الرغم من أن تاريخ الفلسفة يرجع مفاهيم الحداثة إلى الفيلسوف الألماني امانويل كانط، إلا أن التراث العربي الإسلامي قد قدم مفكرين عظام تمكنوا ومنذ مرحلة مبكرة جداً في التاريخ العربي الإسلامي من أن يدركوا مفاهيم الحداثة هذه. لكننا اليوم أبعد ما نكون عنها. ومن الأمثلة المعروفة على ضرورة العقل، ابن رشد وموقفه المعروف في كتابه "فصل المقال"، والقاضي عبد الجبار وموقفه في كتابه "شرح الأصول الخمسة". والذي أكد لنا في الفصل الأول من كتابه، بأن العلم هو المنطلق الأساسي للمعرفة وبغيره لا معرفة ممكنة التأسيس، وشمل بذلك معرفة الله ووجوب هذه المعرفة. فهو لذلك يميز بين العلم والاعتقاد، ويحدد أن الله لا يعرف بالضرورة وإنما بالعقل، ثم يبحث في الأدلة التي تثبت أن معرفة الله واجبة.
وهنا نصل إلى النقطة الهامة في هذه المقارنة. بما أن الحداثة أساسها العلم والعقل، وبما أن النص الديني لا بد أن يكون متوافقاً مع العلم والعقل، لا من منطلق حداثي فقط بل من منطلق الفكر العقلاني العربي، فإن هناك ضرورة لأن يتم التعامل مع النص الديني بالاعتماد على العلم. وبما أن العلم يتطور، بل بما أن العلم دائم التطور، فأن هذا يفرض علينا أن نتعامل مع النص الديني انطلاقاً من تطور معرفتنا العلمية.
ومن الأمثلة على أهمية أن نفكر بالعقل فيما يقوله النص التوراتي التالي. فكما يقر كل مؤمن، أن الله حق وعادل كلي القدرة ومتعال. فإذا جاء نص ديني وقال أن "يعقوب قد تعارك مع الله وانتصر" ولذلك فإن الله "المهزوم" باركه وأسماه "إسرائيل" ومنحه "أرض الميعاد له ولنسله من بعده"، فإن المؤمن العاقل سيقول أن هذا كلام لا يصح لأن الله حق وعادل وكلي القدرة ومتعال، ولا يمكن لمخلوق التغلب عليه. مما يدفع إلى الاعتقاد بأن هناك خلل في النص الديني، وقد يكون الخلل ناتج عن أن النص الديني لا يمثل الحقيقة الدينية، وهو نص محور ومحرف لا يمكن الاعتماد عليه في عرف الكثيرين، أو أن يقول البعض بأن هذا النص يتحدث عن رب آخر غير الله.
على المؤمن إذا أراد الدفاع عن إيمانه أن يكون قادراً على التعامل مع النص الديني بتوافقه واختلافه مع المعرفة العلمية وإلا كان بمقدور الضالعين في لعبة المنطق تجاوز قدرات النص واثبات التناقضات الكثيرة الموجودة فيه، إذا ما أخذت بمعناها اللغوي فقط لا بمستويات الخطاب فيه.                                     

Tuesday 19 January 2016

الثابت والمتحرك في العلم

الثابت والمتحرك في العلم

د. توفيق شومر


          يعتقد أغلب الناس، وحتى من يحمل شهادات علمية في التخصصات الأساسية، بأن قوانين العلم هي قوانين الطبيعة التي لا نلعب دوراً في صياغتها وإنما كل ما نفعله هو أن نكتشفها من خلال دراستنا التجريبية (أو النظرية في بعض الأحيان) للعالم المحيط بنا. إن هذه النظرة محدودة الأفق وتجانب عين الصواب.
          ينزع الإنسان بطبعه إلى البحث عن تعميم يريحه من التفكير بالتفاصيل المملة للأشياء. فهو لا يريد مثلاُ أن يدخل في تفاصيل الاختلافات الخاصة بين بريطاني وبريطاني آخر، أو ياباني وياباني آخر، ولذلك تجده يقول في أغلب الأحيان أن كل اليابانيين متشابهين ولا يستطيع أن يميز بينهم في الشكل. وتترافق مع هذه النزعة للتعميم نزعة أخرى للبحث عن النظام والانتظام في الأشياء ليستطيع أن يرابط بينها. وتبدأ هذه النظرة عند البشر منذ الصغر. لذلك عندما ينظر الأطفال إلى الغيوم فأنهم يحاولون أن يجدوا نوعاً من الانتظام، فيخال لهم مثلاً أن غيمة ما شكلها مثل النعجة وأخرى تشبه الجمل وهكذا. وتعتمد الأشكال التي يتخيلها الأطفال على بعض الخطوط الموجودة في الغيوم وعلى المخزون المعرفي الذي يحملونه. فهم يكملون الرسوم التي أمامهم بأشكال في مخيالهم فيرابطون بين الخيوط ليصلوا إلى الأشكال التي يعتقدون أنهم يشاهدونها.
          هذا التصرف لدى الأطفال يشابه تصرفات البشر بشكل عام. ففي كثير من الأحيان ينزع العقل إلى وصل خطوط ما لتتشكل صورة ما مألوفة له من خطوط عشوائية أمامه. ففي تقنيات الرسم مثلاً ينزع الفنان إلى تحديد مجموعة من الخطوط التي يمكنها أن تحدد منظور معين لدى المتلقي ويكتفي بهذه الخطوط ليعبر عن الشكل الذي يريد رسمه. ويمكن لمن يريد أن يستزيد بالتمعن بمخاطر التخيل وما يمكنه أن يوصلنا إليه من صور ورسوم قد لا تكون موجودة أن يذهب إلى الصفحة الالكترونية الخاصة بالأوهام التابعة لجامعة مانشستر ليقف على العديد من هذه الأوهام الممكنة:     http://dragon.uml.edu/psych/illusion.html  .
          فبالقدر ما تفتحه هذه الحقيقة أمام العقل الإنساني من فرص لكي يتمكن من ربط الأمور مع بعضها البعض والوصول إلى نتائج من مقدمات قد لا تكون مرتبطة ولكنها مترابطة، فإنها أيضاً تفتح الآفاق نحو اقتراح ترابط قد لا يكون صحيحاً أو قد لا يساعد المعرفة الإنسانية. وهذا ما يحدث في كثير من الأحيان في العلم.
          هناك الكثير من الحقائق العلمية المهمة التي لا يمكن لأي كان وعلى مدى قرون وقرون أن ينكرها أو أن يثبت خطأها فهي انتقلت من إطار الفرضيات إلى إطار الحقائق العلمية الثابتة. ومن هذه الحقائق على سبيل المثال حقيقة أن الماء المزاح من الوعاء يساوي حجم الجسم المغمور بالماء داخله. هذه الحقيقة العلمية والتي تأخذ صفة "القاعدة" (قاعدة أرخميدس) تستطيع كما الكثير من مثيلاتها أن تصمد في وجه التغيرات في العلم. فخلال الثورات العلمية الكبيرة وعندما يتغير ما يسميه الفيلسوف الشهير توماس كون الإطار المعرفي، أو كما يهوى البعض أن ينقلوه إلى العربية باسمه الإنجليزي: (البارادايم- Paradigm shift)، تتغير معه المفاهيم والنظريات المسيطرة في فضاء العلم، لكن القواعد الثابتة للعلم من مثل قاعدة أرخميدس تبقى كما هي في الإطار المعرفي الجديد.
          لكن ماذا عن القوانين؟ هناك الكثير من القوانين التي ما زالت صامدة لمدة طويلة من الزمن لكن معظم القوانين التي كانت معروفة مثلاً في القرن السابع عشر قد تغيرت ومن لم يتغير منها فقد أصبح لها مدلولات أخرى ومعاني مختلفة عن تلك التي كانت قائمة لحظة اقتراحها. لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، قوانين نيوتن في القوة. فعلى الرغم من أنها ما زالت تقريب ممتاز للتعامل مع القوى المؤثرة على الأجسام ضمن الأبعاد الطبيعية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية إلا أن الكثير من المفاهيم المرافقة لها قد تغير بشكل جذري عن المفاهيم التي وضعها نيوتن. فمفهوم الكتلة التي نتعامل معه اليوم ليس هو مفهوم الكتلة حسب الفهم النيوتوني القديم، كما أن نيوتن قد قدم قانونه على أنه قانون يسبح في فضاء لا نهائي وزمان سرمدي، والزمان والمكان بحسب الفهم النيوتوني يختلفان عن ما نعرفه اليوم عن الزمان والمكان. فكما نعرف اليوم فإن الزمان هو بعد رابع أساسي في مفهوم الفضاء الهندسي فضاء الزمكان (الزمان- المكان).  وقوانين نيوتن ستفشل عندما نتعامل مع السرعات العالية جداً وعندما نتعامل مع الكتل الصغيرة جداً، وهذه اللحظات في الفشل النيوتوني هي مجالات الثورات العلمية المهمة لبداية القرن العشرين والمتمثلة بثورة النسبية وثورة ميكانيكا الكم.
          وبالتحليل الدقيق لما هو ثابت (غير متحرك) من الإطار المعرفي النيوتوني، ندرك بأنه النماذج الممثلة للظواهر الحقيقية وكل ما عدا ذلك تم تجاوزه على المستوى النظري. وبالتالي فالثابت هنا لا يرتبط بالنظام النيوتوني كما قدمه العقل العلمي في ذلك الوقت والذي أعتمد في تقديمه على مجموعة الصور المعرفية الراسخة عند نيوتن وكيف تمكن نيوتن من ربط خطوط المعرفة التي حصل عليها من دراسته للظواهر الطبيعية المعروفة في زمانه.
          العلم متحرك وثوري بطبيعته وهو بذلك يتجاوز الحدود التي يضعها الإنسان له في كل مرة. فنحن نكتشف الجديد الذي لا يتناسب مع الإطار المعرفي القديم بشكل دائم. وهذه المعرفة الجديدة هي التي تساعد على تقدم العلم.             

    

Friday 15 January 2016

أيها الشباب العربي: عن أي تغيير نتحدث؟

أيها الشباب العربي: عن أي تغيير نتحدث؟ 
د. توفيق شومر

لا بد أن الشباب العربي يدرك تماماً أهمية التغيير وضرورته، والرسالة الأساسية التي أود أن اشارككم بها هنا تنبع من ضرورة رفع شعار موحد للشباب العربي مفاده أنهم يستطيعون بالفعل تحقيق التغيير. الشباب هو الرافعة الأساسية للتغيير وبغير الدم الشاب والجهد الحقيقي والمضني لن يكون هناك إمكانية للتغيير.
لكن الشباب القادر على التغيير هم الشباب الواعي المتسلح بالمعرفة والثقافة العميقة، لا ذلك الشباب المترهل الراكض وراء الثقافات المعولمة المتهاوية، أو ذاك المتهاوي في أحضان السلفية والتعصب. فالمعرفة هي القوة الفعلية التي تمكن الشباب من إدراك الاحتياجات الحقيقية لهم وتبيان الطرق التي يستطيعون بها الوصول إلى أهدافهم المعلنة. وبما أن المعلومات المتوفرة اليوم منفجرة على ذاتها بحيث يزيد ما يطرح على شبكة الانترنت عن مليون صفحة يومياً، هذا بالإضافة إلى ما يطبع من صحف ومجلات وكتب، فيصبح لزاماً على الشباب أن يتعلموا كيفية تحديد ما يفيدهم من معلومات وما لا يفيدهم.
القضية الأخرى المهمة هنا والتي يحتاجها المجتمع تنبع من الحاجة للوصول إلى الكتلة الحرجة الضرورية للتغيير الايجابي، التغيير الذي يدرك التطورات الحادثة في العالم، التغيير الذي يرافقه التمسك بالعلم والمعرفة، لا ذلك التغيير الذي يعيدنا إلى غياهب الجهالة والاحتكام للماضي بمركباته السلبية. والتغيير لا يتم بجهود فردية متفرقة هنا وهناك، على أهمية هذه الجهود وضرورتها، إنما يحدث عندما يتمكن الجسم الأساسي من المجتمع من إدراك أهمية التغيير، وأن يتمكن من إدراك أن هذا التغيير إنما هو في صالح المجتمع ككل، لا في صالح زمرة مستفيدة.
وبالإضافة إلى هذه العوامل المهمة في المهام الملقاة على عاتق الشباب، فهناك مهمة معرفة ودراسة الوضع القائم في العالم، والوضع القائم في الوطن العربي لتحديد النواقص والاحتياجات التي يحتاجها المجتمع ليتمكن من التحرك نحو التغيير. أي أن مهمة الشباب أن يفهموا واقعهم بشكل دقيق، من خلال دراسة حثيثة لكل العوامل التي تحيط بهم ليتمكنوا من وضع الحلول التي يعتقدوا أنها تمكنهم من تحقيق التغيير.
ولكن هل هذا يعني أن المهمة قد ألقيت على عاتق الشباب وأن باقي المجتمع لا حول له ولا قوة؟ بالتأكيد لا، لكن من سبقوكم في العمل العام قد بذلوا جهود وقدموا تضحيات لكنهم في النهاية لم يتمكنوا من الوصول بالمجتمع إلى الكتلة الحرجة القادرة على التغيير. وبالتالي فمن المهم دراسة الطرق التي اتبعت ودراسة النجاحات السابقة والإخفاقات السابقة للوصول إلى فهم أعمق للتجربة لكي يتمكن الشباب من المسير بطرق جديدة قد تكون موفقة أكثر مما كانت عليه طرق أسلافهم.    
ما يحدث اليوم في ظل مرحلة اختلاط الأوراق التي يمر بها عالمنا العربي، والتحول إلى مرحلة من الظلامية العارمة وانتشار الصراع المسلح بين المكونات الاجتماعية المختلفة في الوطن العربي، والتي تزكيه النعرات الدينية والطائفية والقبلية، في ظل غياب العقلانية والعلمية وفي ظل التعريفات المجتزئة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تحصر الديمقراطية "بديمقراطية سياسية" محدودة يحكمها مفهوم ديمقراطية صناديق الاقتراع، ودون المساس ببنية النظم القائمة إلا على المستوى الشكلي فقط، يدفع إلى التساؤل حول ما هي العوامل المؤثرة بالفعل في بنية التحول نحو تغيير سياسي حقيقي في الوطن العربي وكيف يمكن لهذه التغيير أن يتبنى ديمقراطية حقيقية؟
يجب في البداية أن نؤكد أن الديمقراطية هي سيرورة لا يمكن أن تحدث بمجرد الحديث عنها، إنما لا بد من أن تترافق مع جملة من التحولات الاجتماعية والسياسية والقانونية التي تجعل منها مركباً أساسياً في التفكير اليومي للمواطن العربي في تعامله مع جميع القضايا لا مع القضايا السياسية فقط. الرافعة الأساسية لهذه السيرورة هم الشباب الواعي المتسلح بمصالح مجتمعه العربي الرافض للتبعية لأي قوى أجنبية أمريكية كانت أم تركية أم إيرانية. القضية لا ترتبط فقط في فك التبعية من القوى المهيمنة اليوم، ولكن أيضاً، وبشكل أساسي، في بناء قوانا الذاتية التي تجعلنا نتعامل مع الآخرين بندية ومساواة لا بضعف وهوان. 
ولذلك لا بد هنا أن نقول لشبابنا العربي: نعم أنتم من سيتمكن بالفعل من تحقيق تحول المجتمع ليكون مجتمعاً مدنياً بالمعنى الحرفي والتقني للكلمة، لا بشكله الحالي المليء بالشعارات الفارغة. المجتمع المدني لا يتشكل فقط من منظمات المجتمع المدني بل بالأساس من قدرة المجتمع على أن يكون مجتمعاً مدنياً، يقبل الاختلاف والتعددية.   
وترتبط قدرة المجتمع على التحول ليكون بالفعل مجتمعاً مدنياً على مفهوم بسيط هو مفهوم المواطنة. فالمواطنة عماد التحول نحو مجتمع مدني. والمواطنة عماد تحول المجتمع نحو الحرية والديمقراطية الحقيقية.
لكي يكون الفرد مواطناً بالمعنى التقني للكلمة، لا بمفهوم من يحمل جواز سفر دولة، فعلى هذا الفرد-المواطن أن يشعر بأنه جزءاً من الدولة وعلى أن مشاركته الفاعلة في النشاطات المجتمعية والسياسية تؤدي بالضرورة إلى التأثير الفاعل على مجريات الأمور في الدولة. ومن أهم المرتكزات الأساسية لهذا الشعور ينبع من المفهوم المتعارف عليه للحقوق المدنية والذي تبنى عليه علاقة الفرد بالدولة: أن الحكم هو من الشعب وللشعب، وأن الحقوق الأساسية للإنسان هي حقوق طبيعية له لا يحق لأي كان أن يحرمه منها. وبالتالي في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بأن مشاركته السياسية هي بالفعل التي تؤدي إلى تحديد من سيقود البلاد على المستوى السياسي في تلك اللحظة فقط يبدأ الفرد بالتحول في شعوره نحو الدولة من كونه فرداً فيها إلى كونه مواطناً له حقوقه وعليه واجباته. لكن طالما أن الفرد لا يشعر أن بيده حيلة ولا يشعر بأنه قادر على التأثير بالسياسات العامة، فأنه لن يتمكن من التأثير بالفعل في هذه السياسات العامة ولن يكون لديه أدى مشاعر المواطنة.
المواطنة هي أن تشعر بأن لك حقوق يضمنها الدستور لا الولاء للسلطة. أي أنك ستأخذ الامتيازات عينها التي يأخذها أي مواطن آخر إذا كنت مؤيداً لسياسة الحكومة القائمة أم معارضاً لها.
المواطنة تعني أن الفرد إذا أختلف بتحليله لمسألة ما عن تحليل غيره، ولكن ضمن انتمائه لوطنه وضمن التزامه بمصلحة الوطن، فهذا لن يجعله خائناً أو عميلاً، فالاختلاف لا يجب أن يفسد للود قضية. الخيانة تتمثل في أن يقوم المواطن بخدمة أهداف أعداء الأمة والتسليم بالتبعية وقبول الاحتلال.
ويترافق مع المواطنة مفهوم المسؤولية الاجتماعيةSocial Responsibility  وهي تنطلق بشكل أساسي من ضرورة الانخراط الطوعي للمواطنين في علاقتهم مع الدولة، وفي مشاركتهم المجتمعية في بناء المؤسسات المدنية والمجتمعية التي يمكنها أن تسهم في تقدم المجتمع، بما في ذلك الاختيار الحر والمسؤول لممثلي الشعب ولمن يتحدث بأسمهم.  
ولكن ما الدور الذي يمكن للشباب أن يلعبه في هذه المعادلة؟ نقول بأن الشباب هم الرافعة الأساسية للتمكن من التحول الفعلي نحو مجتمع مدني حقيقي وفاعل. فالشباب بمشاركتهم الفاعلة في العمل العام سيتمكنون من فرض دورهم وفعلهم على المجتمع وبالتالي وبهذه الممارسة هم يلغون شعور الاغتراب المسيطر على الكثير منهم، ويعملون إلى الوصول إلى حقوقهم كمواطنين فاعلين. المجتمعات البشرية الديمقراطية والمدنية والمتطورة لم تصل إلى الحال التي هي عليه اليوم دون عمل دءوب وتضحيات من قبل مواطنيها، بل أنها استمرت في التضحية لأكثر من قرنين من الزمان إلى اللحظة التي يعيشوها اليوم.
التغيير الايجابي، المبني على الانفكاك من التبعية والداعم لبناء القوى الذاتية للمجتمع لكي يتمكن من التحول إلى مجتمع منتج متسلح بالعقل والعلم والمعرفة النقدية، هو الشعار الذي يجب أن يرفعه الشباب، والتغيير لا يمكن أن يتحقق بغير الانخراط في العمل نحو التغيير من جسم مناسب من الشباب. فإذا لم يصل عدد الشباب المقتنعين بالتغيير وبقدرتهم على التغيير إلى ما يمكن تسميته بالكتلة الحرجة للتغيير.

صحيح أن التراكمات الصغيرة التي تعمل عليها المنظمات والتنظيمات المختلفة يمكنها أن تشكل حجم يمكنه أن يؤدي إلى تغيرات نوعية على صعيد معين إلا أنها لا تشكل التراكم الكافي للتغيير المنشود. لذلك فعلى الشباب أن يشكلوا روافع اجتماعية تتعدى المنظمات العاملة على قضايا صغيرة ومحددة إلى العمل معاً للوصول إلى الكتلة الكافية للتغيير الاجتماعي.   

Wednesday 13 January 2016

بين العلم وشبه العلم




حاولت في حلقة سابقة أن أميز بين العلم واللاعلم، وهنا أريد أن أطرح مفهوم جديد يتعلق بشبه العلم. هناك الكثير من الفروع المعرفية التي يتأرجح فيها الحكم بين أن تكون علماً وبين أن لا تكون، فكيف يمكن أن نتصرف معها؟ فهناك على سبيل المثال نظريات التخاطر، والتي تقول أن بعض البشر يستطيعون أن يلتقطوا ما يفكر به آخرون دون أن تتم عملية نقل الأفكار باللغة كما هو متعارف عليه. وبالتأكيد فإن المراكز العلمية المرموقة ترفض أن تعترف بهذا النوع من المعرفة على أنه معرفة علمية. وعلى الرغم من ذلك فكثير من الأبحاث التي نظمها علماء مرموقون في علم النفس حاولت أن تدرس الظاهرة، وأن تدرس إمكانية الاعتراف بها كظاهرة يمكن دراستها علمياً.
وكان هناك جملة من التفسيرات التي نقول عنها إنها لها وقع مشابه للتفسيرات العلمية
(
It Sounds Scientific)، كالتفسير الذي يقول بأن كل دماغ إنساني يرسل مجموعة من الذبذبات الخاصة التي يتميز بها، وبالتالي فإذا كان هناك شخص آخر يحمل نفس الذبذبات فهذا الشخص الآخر يستطيع أن يلتقط ما يفكر به الشخص الآخر وبالتالي أن يملك ملكة التخاطر. ويقول لنا من يوافقون على مثل هذا التفسير إن هذا هو التبرير لظاهرة ألفها الناس كثيراً ولكنهم لم يفسروها، إلا وهي ظاهرة أن تفكر بأحد لم تره أو تسمع عنه شيئاً لفترة طويلة من الزمن، وقبل دقائق معدودة من رؤيتك له فعلاً. وهنا يقول هذا التفسير بأن ذلك عائد إلى أن دماغك تمكن من التقاط ذبذبات الشخص الآخر الخاصة مما ساعد على التفكير به قبل رؤيته الفعلية.
كما نرى فإن هذا النوع من التفسيرات حاول أن يستخدم لغة علمية تحاول أن تبرر وجوداً لظاهرة من الصعب التحقق منها لأنها تعتمد على حقائق ذاتية لا يمكن عكسها موضوعياً باستقلال عن الذوات المرتبطين بالتبرير، وبالتالي لن يكون التفسير موضوعياً بالمعنى المقبول به علمياً (أي من النوع الذي يمكن الإقرار به من قبل معظم الناس دون ريبة أو شك). وبالتأكيد لم يحاول التفسير أن يعزو القدرة على التخاطر إلى قوى كونية أو قوى خارقة للطبيعة أو خارج الطبيعة مما جعل منه ما نسميه "يستخدم لغة علمية". وهنا وعلى الرغم من عدم القناعة بالتخاطر أو بإمكانيته فإننا لا نستطيع أن نرفض القول بأن التفسير المقدم يمكن أن يكون تفسيراً مقبولاً على المستوى العلمي في المستقبل.
لم يكن يعترف الطب الغربي بأي نوع من الطب غير ذلك الذي يعتمد على إيجاد التركيب الكيميائي المناسب لمكافحة الأمراض التي تفتك بالجسد وبالتالي فلم يكن يعترف لا بالطب الصيني ولا بالطب الهندي ولا بطب الأعشاب، على الرغم من أن هذه الأنواع من الطبابة لها تراث عريق من البحث العلمي الجاد في كل من الهند والصين والحضارة العربية الإسلامية. لكن الطب الغربي اضطر أن يعترف بهذه الأنواع من الطبابة لأنه رأى أن الكثير من العناصر الكيميائية المستخدمة في الأدوية الحديثة لها أعراض جانبية غير محببة، كما أن بعض الأمراض التي لم يتمكن الطب الكيميائي من معالجتها تتمكن الأنواع الأخرى منها. فنرى أن الوخز بالإبر، والعلاج بالأعشاب، والعلاج بالتدليك، بدأت تغزو مؤسسات أكاديمية عريقة ويتم طرح تخصصات بها والاهتمام بها.
هنا كان اعتراف الطب الغربي بهذه الأنواع من الطبابة طبيعياً ضمن تطور حقل الطب، لأن التفسيرات المقدمة من قبل هذه الأنواع تفسيرات لا بد أن يتم الاعتراف بها لأنها تفسيرات أقل ما يقال عنه إنه تفسيرات علمية. هذا لا ينسحب على كثير مما يعرف في بلادنا بالطب الشعبي، والذي يعتمد في تفسيراته ونمط العلاج المقدم على خبرات لاعلمية أو على قوى تقبع خارج العالم والتي لا يمكن الإقرار بها، أو حتى تخيل أنها يمكن أن تكون تفسيرات مقبولة علمياً في أي يوم من الأيام مستقبلاً: كالضرب "لطرد الأرواح الشريرة المتلبسة أحدهم" والتي يقال عن الذين يعانون من أمراض نفسية تحتاج إلى علاج نفسي جاد، والتي يقرر الطب الشعبي بأن علاجها يكون إما بالضرب المبرح أو بالرقع والودع وغير ذلك. أو بتلاوة الآيات الكريمة كأسلوب للعلاج دون تقديم أي دواء أو علاج فعلي. 
هناك الكثير من الظواهر التي لم يتمكن العلم من تفسيرها بعد، وهناك الكثير من النظريات التي تفسر هذه الظواهر انطلاقاً من قناعات معينة وباستخدام نظريات علمية، لكن لم يتم الاعتراف بها على أنها تشكل جزءاً من الجسم العلمي. إن هذه النظريات التي تستخدم "لغة علمية" يمكن القول عنها بأنها نظريات شبه علمية أو على أطراف العلم، ويمكن لنا أن نتخيل أنها ستكون جزءاً من العلم في يوم من الأيام.  
تعطينا الفيزياء مثالاً صارخاً في هذا الاتجاه: ففي الموصلية الفائقة كان الاعتقاد العلمي المعتمد على النظرية السائدة (1950) يقول بأن الموصلية الفائقة غير ممكنة إلا ضمن درجات تقترب كثيراً من الصفر المطلق (-273 درجة مئوية)، وبالتحديد تحت درجة 30 مطلق (-243 درجة مئوية). وبالرغم من قبول ذلك من معظم الفيزيائيين وبالرغم من أن أصحاب النظرية السائدة حصلوا على جائزة نوبل (1974) إلا أن فيزيائي واحد أصر أن يقدم تفسيراً آخر، لكنه لم يفلح في تقديم برهان على قناعاته، فعاش منبوذاً بعيداً عن المراكز العلمية، لكنه علم جيلاً من العلماء نظرياته المغايرة لما هو سائد، وتمكن اثنان من تلاميذه أن يفجروا ثورة في عالم الموصلية الفائقة عام 1987 بأن صنعوا موصلاً فائقاً يعمل على درجة 172 مطلق (-101 درجة مئوية)، أي أكثر ب140 درجة عن أعلى درجة تعترف بها النظرية السائدة.
وهنا نقول بأنه وعلى الرغم من عدم الاعتراف بشبه العلم اليوم إلا أنه لا يمكننا القول عن نظرياته المقدمة أنها نظريات لا-علمية أو خرافية، كل ما يمكن القول عنها إنها نظريات لا يمكن الإقرار بها اليوم لعدم كفاية الأدلة الداعمة لها. 
بين العلم واللا-علم
د. توفيق شومر

وقد تكون نقطة البدء المنطقية في العلاقة بين العلم والمجتمع هي تعريف العلم وتحديد الاختلاف بين العلم واللا-علم. يعرف الكثيرون العلم على أنه نشاط منظم من الاستكشاف يراد منه الوصول إلى حقيقة ما. ويتضمن العلم هدفاً تفسيرياً تبريرياً لتوضيح الأسباب الكامنة وراء الظواهر الطبيعية. ولكن هذه الميزات لا تنحصر بالعلم وبالتالي لا يمكننا أن نلتزم بها فقط أذا ما أردنا توضيح معنى العلم.
أذن فلا بد من تحديد وتوضيح هذا التعريف. ولكي نستطيع القيام بذلك فلا بد لنا أن نوضح حدود العلم وموضوعه لكي نستطيع أن نلتزم بمخرجاته. نقول إن حقل تطبيق العلم هو العالم الطبيعي، حيث يمكن التحقق من صدق مقولات العلم إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وبالتالي فإن كل ما يتعلق بموضوعات ما وراء الطبيعة من غيبيات أو ماورائيات، أو قضايا إيمانية لا يمكن التحقق منها على المستوى الطبيعي تندرج كلها في فلك الاعتقادات وتخرج من فلك العلم.
وبذلك يكون معنى العلم: هو جملة التفسيرات والنظريات والمناهج التي يقدمها البشر لتفسير أو للتعرف على خصائص موجودات العالم الطبيعي من ظواهر وكائنات وعلاقات بين هذه الكائنات أو الظواهر.
السؤال الأول الذي يتبادر للذهن بعد الإقرار بهذا التعريف هو لماذا يمكن اعتبار بعض التفسيرات والنظريات عن العالم الطبيعي تفسيرات ونظريات يمكن قبولها على أنها نظريات علمية بالرغم من غرابتها وعدم انسجامها مع الحس العام، بينما يحكم على كثير من النظريات الأخرى التي تتعامل مع العالم الطبيعي على أنها نظريات لا علمية؟ فقارئو الأبراج يقولون إنهم لم يصلوا إلى القدرة على معرفة الطالع والأبراج إلا بعد دراسة طويلة لأسرار "علم الأبراج" كما يسمونه. وهم يقولون إن استنتاجاتهم مبنية على حسابات دقيقة لعلاقة الكواكب والنجوم والأفلاك بيوم وساعة ميلاد الفرد، وبالتالي فإن ما يقدمونه من معلومات مبني على نظريات ومعلومات ودراسات وليس مبنياً على محض افتراضات. وبالرغم من هذا كله فإن قراءة الأبراج ليست علماً ومهما تطورت أساليب المنجمين بها من استخدام للكمبيوتر والتكنولوجيا الحديثة سيبقى هذا الشكل من البحث خارج إطار العلم.
وعلى الطرف الآخر للمعادلة وإلى اليوم، وعلى الرغم من معرفتنا الدقيقة بخطأ النظرية التي قدمها عالم البيولوجيا لامارك الذي عاش في القرن التاسع عشر حول إمكانية توريث الصفات المكتسبة، إلا أننا ما زلنا نعتقد أن لامارك عالم بيولوجيا مهم، وأن نظريته بالرغم من خطئها ما زالت تعتبر بأنها نظرية علمية أثبت فشلها.
وبالتالي فما هو الذي يفرق بين هذين المثالين؟ الفارق الأساسي هو في إمكانية التحقق من صدق التنبؤات التي يقدمها كل منهما، فبينما تعطينا إمكانية التنبؤ في العلم نتائج دقيقة عما يمكن أن يحدث في المستقبل ويمكننا أن نكون على يقين بأن ما تقوله لنا النظريات العلمية عن المستقبل بأنه سيحدث لا محالة، بينما لا نستطيع أن نركن إلى التنبؤات التي يقدمها لنا المنجمون. فعلى الرغم من أنهم يستطيعون أن يقدموا جملاً فضفاضة يمكن أن يتم تفسيرها على نحو مختلف لكل شخص، وبالتالي أن يصدقوا بحسب تفسير أحدهم بينما يكذبوا بحسب تفسير آخر، إلا أننا لا يمكننا أن نعتمد على التنبؤات التي يقدمونها.
في العلم نستطيع أن نقول بأن الماء سيتبخر عند درجة 100 مئوية، ونحن نثق أن هذا سيحدث بالفعل عندما تصل درجة حرارة الماء إلى 100، بينما عندما يقول منجم أن "أمامك سفر على بعد إشارتين"، فهذا وعلى الرغم من أنه يمكن أن يصدق لعموميته الشديدة (فالإشارتان يمكن أن تكونا: يومين، أسبوعين، شهرين، سنتين، عقدين، ....، وبالتالي فإنه من الممكن لكثير من الناس أن تصدق معهم التنبؤ)، ولكن مثل هذا التنبؤ بعيد عن أن يكون تنبؤاً علمياً. فنحن لا نستطيع أن ندرك بالضبط متى سيحدث السفر، وفي العلم لا مجال للتأويل بل يجب أن يكون هناك حكم واضح حول النتيجة الممكنة للتنبؤ.
ولولا إمكانية التنبؤ هذه لفشلنا في الوصول إلى ما وصلنا إليه من علم وتكنولوجيا: فالطائرات بنيت اعتماداً على قوانين الميكانيكا والموائع لتطير، ونحن نعرف أنها ستطير قبل أن تحلق في الفضاء، كما أننا نعرف أن البطاريات ستبقى تعمل ما لم تخدش أو تستهلك، ونعرف كيف نصنع التلفاز والكمبيوتر والسيارة ونعرف ما ينفع من علاج لمعظم الأمراض ونعرف ونعرف...    
وعلى الرغم من قولنا هذا فإن العلم الحديث، وخاصة ميكانيكا الكم تفشل في أن تحقق هذا الشرط في العلم بالمعنى الكلاسيكي له بل إن التنبؤ في ميكانيكا الكم يحتكم لمبدأ اللاتحديد والذي يقر بإمكانية معرفة النتيجة لواحدة من كميتين متوافقتين كالزخم أو الموقع، الزمن أو الطاقة، وهكذا.. وبالرغم من ذلك فإننا نعتبر ميكانيكا الكم من أدق النظريات التي فسرت ظواهر الطبيعة. لكن سأترك مشاكل ميكانيكا الكم إلى حلقة قادمة.
يبقى أن نؤكد بأن اللا-علم يرتبط بكل ما هو اعتقادي وبكل ما يقدم تفسيرات عن ظواهر هذا العالم تعتمد على مكونات أو اعتقادات خارجة عن هذا العالم، ولا يمكننا أن نتحقق من صحتها مهما حاولنا أن نفعل: كالتنجيم، وقراءة الطالع، والخرافة، والأشباح، وغير ذلك من خزعبلات.