Saturday 13 February 2016

اللغة أداةً لتعمية المعرفة

اللغة أداةً لتعمية المعرفة
19/8/2005

 د. توفيق شومر
      اللغة، هي وسيلة الاتصال الأولى بين البشر، وهي أداة التخاطب وهي معين تطور الأفكار. لقد بدأ التخاطب بين البشر باستخدام مجموعة من الأصوات التي تشابه الأصوات الموجودة في الطبيعة، ثم تطور أسلوب التخاطب فاستخدم مجموعة من الأشكال المعبرة عن موجودات الطبيعة. لم يكن الإنسان البدائي يحتاج أكثر من ذلك لإيصال ما يفكر به من احتياجات أساسية لغيره من البشر، ولم تكن بعد تعقيدات الحياة قد دخلت قاموسه.
      مع بدء تحول المجتمع إلى المجتمع الطبقي، أو مع ظهور تقسيم العمل البدائي بدأت المجتمعات البشرية ترسي أسس لغاتها، أو لنقل جملة الحروف والمفردات التي ستلعب الدور الأساسي في انتقال المعرفة من معرفة مباشرة لموجودات الطبيعة، إلى معرفة عن موجودات الطبيعة.   وكان من الطبيعي بعد أن وجدت وسائل التخاطب السهلة (اللغة)، أن ينتقل المجتمع البشري إلى انتاج مفاهيم خاصة، باعتبار أن اللغة هي الأداة التي بها يتمكن الفكر من تجريد الواقع.
      وبرزت الأسطورة كأول شكل من أشكال التركيب المفهومي، والتي بها بدأ الإنسان يتعالى عن احتياجاته الجسدية المباشرة إلى احتياجاته الذهنية، وأدى تطور الأسطورة إلى نشوء الأفكار الفلسفية والدينية والعلمية في المجتمعات السياسية التي تشكلت في مرحلة متقدمة من التطور البشري. وبذلك تكون الأسطورة عبارة عن الشكل الجنيني للفكر الناتج عن بدء تشكل المجتمع المدرك.
      لتوضيح ما أقصد فإن المجتمع الإنساني بدأ يدرك علاقاته الإنتاجية منذ أن اتضحت فكرة تقسيم العمل الاجتماعي وبالتالي اتضح الدور المنوط بالفرد في المجتمع وترافق مع هذا الإدراك تطور في استخدام اللغة لتتناسب مع التطورات الاجتماعية الطبقية، وبالتالي السياسية، للمجتمع البشري. ومن الواضح أن مجتمعاً طبقياً على الرغم من بدائيته يحمل بداخله التناقضات الكامنة بين علاقات الإنتاج وقوى الانتاج. وسواء كان هذا التناقص مدركاً ذهنياً أو غير مدرك، فإنه سيؤثر على أي منتج ذهني مرافق له.
      وانطلاقاً من ذلك فإن التركيبات اللغوية التي ترافقت مع هذا التطور، والأشكال الفكرية التي ساعدت في تبلور هذه التركيبات ، كانت محتكمة للتناقض القائم في المجتمع، فكان من الطبيعي أن تحمل اللغة في طياتها تناقضات الواقع المعاش لأنها إن بشكل مباشر أو غير مباشر عبارة عن انعكاس لهذا الواقع.
      وإذا امعنا النظر بالفلسفة اليونانية وهي إحدى أوائل النشاطات الإنسانية الذهنية الواعية نجد أنها حملت بداخلها تناقضاً بين مدرستين فلسفيتين ستستمران بالتأثير على الفكر الإنساني طويلاً هما المدرسة المادية (ديمقريطس والايونيين وابيقور) والمدرسة المثالية بفرعيها المثالية المتعالية (افلاطون) والمثالية الهابطة إلى الأرض (ارسطو)، وأن عدنا إلى الوراء قليلاً لنبحث في أساطير الشرق المتوسط خلال الفترة السابقة لتشكل الفكر الفلسفي لوجدنا داخل التركيبة الأسطورية تناقضاً بين مثالية غير ناجزة ومادية غير واضحة. فإن كانت الغلبة حينها للفكر المثالي، فهذا طبيعي نتيجة لسيطرة طبقة (الأسياد) في المجتمع، والتي رأت في الفكر المثالي التبرير الكافي لسيطرتها الطبقية.
      ومع استمرار تطور المجتمعات وظهور الفكر الديني، وتحوله إلى أن يكون الشكل الفكري المرافق للسيطرة الطبقية إن في روما القيصرية أو في غيرها من البلدان التي اعتمدت على الفكرة الدينية في إحكام سيطرتها السياسية. وخلال مجمل هذا التطور الفكري السياسي، تطورت اللغة وحملت قوانينها وتركيباتها وتعابيرها التي بالضرورة أصبحت متشبعة بالأفكار والتركيبات المثالية والتعابير المثالية، وبالتالي أصبح المجتمع أسيراً لهذه المفاهيم وأصبحت مع الوقت امكانية تحريكها وتعريتها أمامه عملية معقدة وصعبة، وستنحصر مع الأيام بمجموعة من الأشخاص الذين يستغلون بالعمل الذهني.
      فالكثير من المفاهيم التي أقحمت في التركيبات اللغوية، تعبر عن وضع مثالي طبقي من نوع ما كتعابير (عدالة، حرية، ديمقراطية) لأنها لم تكن لتظهر إلا كنتيجة للواقع الطبقي للمجتمع، ولطبيعة الفكر المثالي المسيطر، وحتى لو اتخذت هذه الألفاظ طابعها المدافع عن حقوق معينة في فترة نشوئها. ولم يكن هناك ضرورة لنشوئها إلا نتيجةً لغياب مردوداتها في المجتمع الطبقي، أو لنقل غياب ما تعبر عنه، فوجب نشوؤها رداً على النقيض السائد. ومن ناحية ثانية، نجد أيضاً مفاهيم تعبر عن حاجات دينية (أسرار، لاهوت، جوهر، مكنون)، وأخرى تعبر عن أشكال خاصة للسيطرة (اوتوقراطية، ثيوقراطية). فأضحت جملة المفاهيم مجتمعة والتي تتشكل منها اللغة هي مفاهيم تشكل في غالبيتها مفاهيم مثالية منتجاً للسيطرة السياسية لهذا الفكر المثالي.
      والآن ونحن ننظر لهذا التطور التاريخي للغة ما زلنا نستخدم التراكيب اللغوية والمفاهيم نفسها, وكأنها أصبحت جزءاً من الواقع الموضوعي لا جزءاً من منتج فوقي تطور تاريخياً ضمن الظروف العامة لتطور المجتمع البشري.
      ولذلك وفي كثير من الأحيان وإن لم ندقق في ما تقوله اللغة بشكل مستتر، وإن لم نعن خطورة بعض التركيبات اللغوية والتعابير المفهومية سنقع بالتعمية المعرفية التي تقوم بها اللغة، وإن بغير قصد منا.

      وللتغلب على هذه الصعوبة، التي أصبحت بعد ثلاثة آلاف عام من نشوء اللغة جزءاً من التركيبة الاجتماعية، أقول بأن علينا أن نقوم بتغيير جذري للتركيبات اللغوية وإعادة نظر شاملة بجملة الأدوات المفهومية حتى نتمكن من تخليص اللغة من المفاهيم الميتافيزيقية التي تشبعت بها، وبالتالي، ومن خلال عملية المراجعة والتغيير هذه سنتمكن من إدراك ما هي المفاصل اللغوية التي لا تحمل بداخلها أفكاراً قبلية عن سيطرة مثالية عن تلك التي تحمل، وبهذه العملية المعقدة جداً نستطيع أن نحاكم معرفتنا إن هي معرفة عن الواقع أو هي معرفة عن رؤيتنا الخاصة للواقع.

Friday 5 February 2016

هل يمكن للفكر أن يحيا من أجل الفكر؟ ....... إنه سؤال العلماء العرب المسلمين الأوائل

 
هل يمكن للفكر أن يحيا من أجل الفكر؟

  د. توفيق شومر
     
كيف تعامل العلماء العرب – المسلمون، خلال حقبة النهوض العربي – الإسلامي، مع الحضارة الانسانية التي سبقتهم أو تلك التي عاصروها، وكيف كان أسلوب المفكرين والمثقفين العرب في مرحلة النهوض الثانية أو ما يعرف بعصر النهضة وما بعده؟  
      أدرك العلماء العرب – المسلمون المعرفة التي توصلت إليها حضارات أخرى مهمة وأساسية في مختلف العلوم، ولكي يستطيعوا التواصل مع تلك المعارف، يجب أن يقوموا بفهمها وهضمها لكي يضيفوا إليها ويكملوا من حيث انقطع غيرهم.
    
فكيف تعامل العلماء ، إذن ، مع هذه المعارف والحضارات؟        
      قام العلماء العرب – المسلمون بعملية نقل وترجمة واسعة لمعارف عصرهم من اللغات اليونانية والفارسية والهندية وغيرها، إذ أنهم أدركوا أهمية أن تكون هذه العلوم موجودة باللغة العربية، للمساعدة على فهم هذه العلوم من قبل طالبي العلم أولاً والعوام عامة. ويلاحظ خلال عمليات الترجمة ترافقها مع شروح خاصة للمترجمين عن مفاهيم وفروع العلوم المترجمة، والظروف التي كُتبت فيها إن كانت معروفة.   
      وقد استخدم العلماء العرب – المسلمون هذه العلوم بتصرف وبسطوها بحيث تكون في متناول كل من يحتاجها. وكذلك نجد أن اهتمام العوام بتحصيل ما يستطيعون فهمه ساعد في أن يدفع العلماء إلى مزاوجة هذه العلوم المترجمة مع التراث العربي والحضارة الاسلامية، بهدف جعلها محايثة للواقع المعاش فلا يشعر طالب العلم باغتراب عند مطالعتها.
      ويلاحظ أنه دخلت في بعض الأحيان بعض المفاهيم الحضارية إلى المجتمع وامتزجت بالحضارة العربية- الإسلامية من دون أن تحدث أي إرباك من حيث أنها مفاهيم "غير أصيلة" في المجتمع. فإن كان استمرار بعضها انحصر في مجموعات ضيقة، في ما بعد، نتيجة لأحداث سياسية معينة فذلك لا يفيد بأنها كانت غريبة عن المجتمع حينها. ومن الأمثلة الكثيرة في هذا الصدد أورد فقط مثالي المتصوفة والبابكية. فالمتصوفة تأثروا بالروحانيات وعلومها التي عرفوها من الهند، ولكنهم أخضعوها للتعديل والنقد حسب آلية فهمهم للتراث الإسلامي. وبذلك جانسوا ما بين تلك الروحانيات وبين تعاليم الدين. فنجد ابن عربي يركّز على العلاقة بين الأسماء وأصحابها ومعاتي هذه العلاقة تماماً كما تركز عليها الديانات الهندية القديمة، لكنه لم يستخدم المفهوم كما هو إنما استخدمه لتحليل أسماء الله أولاً ثم أسماء الأنبياء وهكذا. أما عن البابكية فمعروف أنها كانت متأثرة بالتعاليم المزدكية القديمة وأنها حاولت التوفيق ما بين التعاليم المزدكية وتعاليم الإسلام.
      لم يشعر العلماء العرب – المسلمون بضعف أو إهانة عندما استخدموا بحريّة علوم الحضارات الأخرى، إذ أنهم كانوا يدركون حدود العلاقة وطبيعتها بين تلك العلوم والحضارات وبين الحضارة والعلوم العربية – الإسلامية. ولذلك لا يجد ابن سينا أو الفارابي أو ابن رشد أي ضير في وصف افلاطون أو أرسطو بالمعلم. ولم يصفوا يوماً أفكار الإغريق بأنها "فكر مستورد".   
     
ماذا عن مرحلة النهضة وما بعدها؟      
      لقد ابتدأت العملية النهضوية بشكل جيد، إذ نجد أن مفكري عصر النهضة قد استجابوا لمتطلبات العصر واهتموا، وإن بشكل محدود، بإدخال المفاهيم التي استقوها من الحضارة الغربية إلى جسم الوعي العربي. لكن، للأسف، تحولت هذه العملية مع الوقت إلى عملية شكلية لنقل العلوم بصورة أكاديمية تعتمد الأسلوب ذاته المستخدم في بلدانها. وعلى رغم شكلية عملية الترجمة والنقل فإنها بقيت ضعيفة ومحدودة. وبرزت العلاقة ما بين الفكر والتراث العربي وبين الفكر الغربي على شكل "اشكالية" ، فهي للبعض اشكالية الأصالة والمعاصرة ولآخرين اشكالية العلاقة بين الإسلام وأعداء الإسلام أو اشكالية "الجوّاني والبرّاني" وهكذا ، حتى أصبح أي فكر غير مرتبط بالموروث التراثي فكر مستورد.       
      كانت العلاقة بين العلماء العرب المسلمين ومجتمعهم، كما قلنا، علاقة ادغام وتواصل، أما علاقة المثقفين والمفكرين العرب الآن مع مجتمعهم فعلاقة انقطاع واغتراب. حتى المفكرين الذين يقولون ببعث الموروث الحضاري العربي – الاسلامي فهم أيضاً لم يجدوا حالة تواصل مع مجتمعهم لأنهم يتعاملون، بالضبط مع التراث بالطريقة نفسها التي يتعامل غيرهم فيها مع الفكر الناتج عن حضارات أخرى.
      إن التواصل مع ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الآن من علم ومعرفة ومن علاقات فكرية وحضارية، يتم من خلال الفهم الاجتماعي لطبيعة هذا التطور ومعانيه. ولا يكون ذلك إلا عبر نقل لهذه العلوم ليس فقط من حيث هي علوم بل أيضاً نقل ملامحها الحضارية وارتباطها بطبيعة التطور الاجتماعي للمجتمع الذي أُنتجت فيه، وربطها من ثم بالواقع الحضاري العربي لكي تكون مفهومة ليس فقط للمختصين إنما أيضاً (وبروحها العامة كعلوم على الأقل) لمن يطلبها.
      والاحتكاك مع الفكر الانساني بآخر ما توصل إليه في سجاله المتواصل، أمر له الأهمية ذاتها التي هي للتواصل مع العلوم البحتة. وهذا الاحتكاك لن يؤدي بنا بالضرورة إلى محو تراثنا وما أنتجه من فكر عريق، بل سيؤدي إلى عملية من التزاوج قد تنتج جديداً يستطيع التواصل مع الجسم الاجتماعي العربي. وقراءة الفكر المنتج من قبل الحضارات الأخرى إضافة إلى قراءة التراث يجب أن تكونا انطلاقاً من فهمنا لاحتياجات الجسم الاجتماعي وباحتكاك مباشر معه لكي يتفاعل ما ينتج عن هذه القراءة مع الواقع المعاش، فالفكر لا يمكن أن يحيا من أجل الفكر.
      تتردد أقوال كثيرة هنا وهناك، وفي كثير من الأحيان، أن العوام في المجتمع العربي لا يستطيعوا استيعاب الفكر المنتج، ولذلك فهم يهربون إلى ما يستطيعون فهمه. وإلى الطرف الذي لا يحتاج منهم إلى عناء التفكير. لكن ليس هذا هو الوضع، فما يحدث حقيقة أن ما ينتج من فكر ينتج في حالة اغتراب عن واقعه في أكثر الأحيان، وإن لم تكن هذه هي الحال فإنه يسعى لتغييبه ولتغريبه من قبل الأجهزة المرتطبة بآلة الإعلام الغربية، وبهدف إبقاء الحال على ما هو عليه، لأن في ذلك مصلحة للآلية الاقتنصادية المسيطرة عالمياً.    
      فالديموقراطية، مثلاً، لا يمكن أن تصبح جزءاً من وعي الناس إلا بعد أن يمارسوها ويعرفوا معانيها وما ترمي إليه من خلال احتكاكهم ومعايشتهم للحياة الديموقراطية، وليس فقط من خلال سماعهم عنها في الإذاعات من دون رؤية مردوداتها في الواقع. الشعوب الأوروبية لم تخلق ديموقراطية وإنما تطور وعيها بها من خلال ممارستها.    
      إن عملية البعث الحضاري للحضارة العربية – الإسلامية في القرن العشرين لا تكون باستنساخ أفكار العلماء والفلاسفة العرب – المسلمين في القرن التاسع، ولكن بإعادة انتاج الفكر على ضوء علاقته بالحضارة والفكر الإنساني في أعلى مراحل تطوره، وإدغامه بالمجتمع عن طريق التعامل مع معطياته. هذا، بالضبط ما قام به العلماء العرب المسلمون في مرحلة النهوض الأولى ولذلك تفوقوا وأبدعوا، فهل نبدع ونتفوق؟!