19/8/2005
|
د. توفيق شومر
اللغة، هي وسيلة الاتصال الأولى بين البشر، وهي أداة التخاطب وهي معين تطور
الأفكار. لقد بدأ التخاطب بين البشر باستخدام مجموعة من الأصوات التي تشابه
الأصوات الموجودة في الطبيعة، ثم تطور أسلوب التخاطب فاستخدم مجموعة من الأشكال
المعبرة عن موجودات الطبيعة. لم يكن الإنسان البدائي يحتاج أكثر من ذلك لإيصال ما
يفكر به من احتياجات أساسية لغيره من البشر، ولم تكن بعد تعقيدات الحياة قد دخلت
قاموسه.
مع بدء تحول المجتمع إلى المجتمع الطبقي، أو مع ظهور تقسيم العمل البدائي بدأت
المجتمعات البشرية ترسي أسس لغاتها، أو لنقل جملة الحروف والمفردات التي ستلعب
الدور الأساسي في انتقال المعرفة من معرفة مباشرة لموجودات الطبيعة، إلى معرفة عن
موجودات الطبيعة. وكان من الطبيعي بعد أن وجدت وسائل التخاطب السهلة
(اللغة)، أن ينتقل المجتمع البشري إلى انتاج مفاهيم خاصة، باعتبار أن اللغة هي
الأداة التي بها يتمكن الفكر من تجريد الواقع.
وبرزت الأسطورة كأول شكل من أشكال التركيب المفهومي، والتي بها بدأ الإنسان يتعالى
عن احتياجاته الجسدية المباشرة إلى احتياجاته الذهنية، وأدى تطور الأسطورة إلى
نشوء الأفكار الفلسفية والدينية والعلمية في المجتمعات السياسية التي تشكلت في
مرحلة متقدمة من التطور البشري. وبذلك تكون الأسطورة عبارة عن الشكل الجنيني للفكر
الناتج عن بدء تشكل المجتمع المدرك.
لتوضيح ما أقصد فإن المجتمع الإنساني بدأ يدرك علاقاته الإنتاجية منذ أن اتضحت
فكرة تقسيم العمل الاجتماعي وبالتالي اتضح الدور المنوط بالفرد في المجتمع وترافق
مع هذا الإدراك تطور في استخدام اللغة لتتناسب مع التطورات الاجتماعية الطبقية،
وبالتالي السياسية، للمجتمع البشري. ومن الواضح أن مجتمعاً طبقياً على الرغم من
بدائيته يحمل بداخله التناقضات الكامنة بين علاقات الإنتاج وقوى الانتاج. وسواء
كان هذا التناقص مدركاً ذهنياً أو غير مدرك، فإنه سيؤثر على أي منتج ذهني مرافق
له.
وانطلاقاً من ذلك فإن التركيبات اللغوية التي ترافقت مع هذا التطور، والأشكال الفكرية
التي ساعدت في تبلور هذه التركيبات ، كانت محتكمة للتناقض القائم في المجتمع، فكان
من الطبيعي أن تحمل اللغة في طياتها تناقضات الواقع المعاش لأنها إن بشكل مباشر أو
غير مباشر عبارة عن انعكاس لهذا الواقع.
وإذا امعنا النظر بالفلسفة اليونانية وهي إحدى أوائل النشاطات الإنسانية الذهنية
الواعية نجد أنها حملت بداخلها تناقضاً بين مدرستين فلسفيتين ستستمران بالتأثير
على الفكر الإنساني طويلاً هما المدرسة المادية (ديمقريطس والايونيين وابيقور)
والمدرسة المثالية بفرعيها المثالية المتعالية (افلاطون) والمثالية الهابطة إلى
الأرض (ارسطو)، وأن عدنا إلى الوراء قليلاً لنبحث في أساطير الشرق المتوسط خلال
الفترة السابقة لتشكل الفكر الفلسفي لوجدنا داخل التركيبة الأسطورية تناقضاً بين
مثالية غير ناجزة ومادية غير واضحة. فإن كانت الغلبة حينها للفكر المثالي، فهذا
طبيعي نتيجة لسيطرة طبقة (الأسياد) في المجتمع، والتي رأت في الفكر المثالي
التبرير الكافي لسيطرتها الطبقية.
ومع استمرار تطور المجتمعات وظهور الفكر الديني، وتحوله إلى أن يكون الشكل الفكري
المرافق للسيطرة الطبقية إن في روما القيصرية أو في غيرها من البلدان التي اعتمدت
على الفكرة الدينية في إحكام سيطرتها السياسية. وخلال مجمل هذا التطور الفكري
السياسي، تطورت اللغة وحملت قوانينها وتركيباتها وتعابيرها التي بالضرورة أصبحت
متشبعة بالأفكار والتركيبات المثالية والتعابير المثالية، وبالتالي أصبح المجتمع
أسيراً لهذه المفاهيم وأصبحت مع الوقت امكانية تحريكها وتعريتها أمامه عملية معقدة
وصعبة، وستنحصر مع الأيام بمجموعة من الأشخاص الذين يستغلون بالعمل الذهني.
فالكثير من المفاهيم التي أقحمت في التركيبات اللغوية، تعبر عن وضع مثالي طبقي من
نوع ما كتعابير (عدالة، حرية، ديمقراطية) لأنها لم تكن لتظهر إلا كنتيجة للواقع
الطبقي للمجتمع، ولطبيعة الفكر المثالي المسيطر، وحتى لو اتخذت هذه الألفاظ طابعها
المدافع عن حقوق معينة في فترة نشوئها. ولم يكن هناك ضرورة لنشوئها إلا نتيجةً
لغياب مردوداتها في المجتمع الطبقي، أو لنقل غياب ما تعبر عنه، فوجب نشوؤها رداً
على النقيض السائد. ومن ناحية ثانية، نجد أيضاً مفاهيم تعبر عن حاجات دينية
(أسرار، لاهوت، جوهر، مكنون)، وأخرى تعبر عن أشكال خاصة للسيطرة (اوتوقراطية،
ثيوقراطية). فأضحت جملة المفاهيم مجتمعة والتي تتشكل منها اللغة هي مفاهيم تشكل في
غالبيتها مفاهيم مثالية منتجاً للسيطرة السياسية لهذا الفكر المثالي.
والآن ونحن ننظر لهذا التطور التاريخي للغة ما زلنا نستخدم التراكيب اللغوية
والمفاهيم نفسها, وكأنها أصبحت جزءاً من الواقع الموضوعي لا جزءاً من منتج فوقي
تطور تاريخياً ضمن الظروف العامة لتطور المجتمع البشري.
ولذلك وفي كثير من الأحيان وإن لم ندقق في ما تقوله اللغة بشكل مستتر، وإن لم نعن
خطورة بعض التركيبات اللغوية والتعابير المفهومية سنقع بالتعمية المعرفية التي
تقوم بها اللغة، وإن بغير قصد منا.
وللتغلب على هذه الصعوبة، التي أصبحت بعد ثلاثة آلاف عام من نشوء اللغة جزءاً من
التركيبة الاجتماعية، أقول بأن علينا أن نقوم بتغيير جذري للتركيبات اللغوية
وإعادة نظر شاملة بجملة الأدوات المفهومية حتى نتمكن من تخليص اللغة من المفاهيم
الميتافيزيقية التي تشبعت بها، وبالتالي، ومن خلال عملية المراجعة والتغيير هذه سنتمكن
من إدراك ما هي المفاصل اللغوية التي لا تحمل بداخلها أفكاراً قبلية عن سيطرة
مثالية عن تلك التي تحمل، وبهذه العملية المعقدة جداً نستطيع أن نحاكم معرفتنا إن
هي معرفة عن الواقع أو هي معرفة عن رؤيتنا الخاصة للواقع.