Thursday 28 January 2016

الدين والدولة والسياسة

مقال نشرته في 26 أيار من 2008 في صحيفة الغد الأردنية وللأسف فأن بعض ما كنت قد توقعته من مخططات أمبريالية أصبح اليوم جزء من الواقع العربي.

الدين والدولة والسياسة؟

د. توفيق شومر

يبرز اليوم في بعض الدوائر الثقافية سوء فهم لمفهوم العلمانية وعلاقتها بالدولة. فالكثير من الكتاب يخلطون بين فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة. وهناك اختلاف كبير بين المفهومين. فصل الدين عن الدولة -أي دولة- ضروري لتثبيت حياد الدولة في علاقتها مع مواطنيها بغض النظر عن معتقداتهم وإيمانهم. وهذا ضروري وبالأخص في الوطن العربي والذي يحتوي على العديد من التفرعات العقائدية والدينية والمذهبية. ومفهوم ربط الدين بالدولة هو مفهوم تفكيكي فرض علينا في الوطن العربي من خلال القوى الاستعمارية والإمبريالية بشكل عام، فالإسلام مثلا ليس مشروعا سياسيا بل هو مكون أساسي ثقافي واجتماعي في المجتمع العربي قبل ان تنجز الدولة الحديثة.
لكن ولكي يتم تبرير نشوء ووجود الكيان الصهيوني الديني العنصري لا بد من أن تتشكل حوله مجموعات من الدول الدينية العنصرية المتفككة والفسيفسائية لكي يصبح وجوده ككيان مبرر ضمن محيطه. وهذا بالضبط مثلاً الغرض من مخططات الشرق الأوسط الجديد والذي يتشكل بشكل أساسي من دول أساسها ديني كمثل ما يقترح اليوم من "قرار غير ملزم" من الكونغرس الأمريكي لتفكيك العراق إلى ثلاث دول: كردية وسنية وشيعية. وهذا ليس المثال الوحيد للتفكيك فما يرتب للمنطقة بحسب المخططات التفكيكية المعروفة للجميع أن يصبح هناك دولة سنية ودولة علوية ودولة درزية ودولة مارونية ودولة مسيحية ودولة شيعية في بلاد الشام بدلاً من الدول القائمة الآن. وغير مستبعد أن يظهر لنا قريباً من يقول بضرورة تشكيل دولة شيشانية ودولة أرمنية ودولة أفغانية من الأقليات الموجودة من هذه الدول في بلاد الشام.
وأفريقيا العربية ليست بأحسن حال في برامج التفكيك هذه. فمصر يجب أن تفكك إلى مصر قبطية ومصر سنية، ولا مانع من أن يكون هناك دولة إسماعيلية أيضاً، والسودان يفكك إلى دولة مسيحية وأخرى مسلمة وثالثة قبائلية، والجزائر والمغرب إلى دول أمازيغية ودول عربية وغيرها من محاولات التفكيك المختلفة. ولكن الهدف الأساسي من كل هذه المحاولات هي ضرب مفهوم الأمة العربية المتميز والذي يبنى على أساس حضاري لا على أساس عرقي.
في المقابل يصعب الحديث عن فصل الدين عن السياسة فالسياسة مركب أساسي في كل المكونات الفكرية لأي مجتمع وبالتالي فلا يمكن أن نفصل الديني عن السياسي. ولكن يجب على القوى الدينية العاملة في السياسة أن ترفض عقلية التقسيم الغريبة عن عقيدتنا العربية منذ وحد الإسلام هذه المنطقة.
المنطقة العربية كانت تنضوي تحت دولة الحكم ولكن الإسلام كحضارة كان شعارها لا الإسلام كدين. ودلالات ذلك في تاريخنا العربي كثيرة فالوزير الأول في العديد من الحكومات العربية في عهد الخلافة العربية منذ الراشدين إلى العباسيين كان غير مسلم، وفي ذلك اعتراف أن الدولة لكل مواطنيها والدين للمؤمنين به.
فصل الدين عن الدولة ضرورة سياسية ومجتمعية في عالمنا العربي. فالقبطي عربي قح قبل أن يكون الإسلام وبعده. والمسيحي العربي ينتمي لهذه المنطقة منذ آلاف السنين وهو ليس صنيع أي قوة أجنبية، والشيعي والسني ما هم إلا أحفاد الذين اختلفوا في موقعة صفين من العرب حول الموقف من الخلافة (الخلاف بين علي ومعاوية). أما الكثير من الأقليات الأخرى الموجودة في المجتمع العربي فهي اليوم عربية بغض النظر عن أصولها ومنابتها. فالمنطقة العربية احتضنت كل مضطهَد قادم من أي موقع، ولا يوجد في الاسلام أي عصبية والثقافة الاسلامية ترفضها، وهؤلاء اندمجوا في المجتمع العربي، وأصبحوا يعلنون انتماءهم للحضارة العربية الإسلامية.
وبالتالي فلنحدد اليوم العلاقة بين هذه المكونات الأساسية في المجتمع العربي على مختلف أسسها ودياناتها ومذاهبها لا على أساس التفكيك الذي يفرض علينا من القوى الاستعمارية بل على أساس الوحدة والقناعة بفصل الدين عن الدولة. ونحن بذلك نصحح الخطأ الذي تقع به دولتان في محيطنا في اتخاذهما الدين كأساس للدولة وهما: دولة الكيان الصهيوني والدولة الإيرانية. 
أما عن القوى الدينية في السياسة فما دامت هذه القوى تقر بعلمانية الدولة وبأحقية كل مواطنيها بالانتماء إليها فإن رفع الشعار الديني لن يكون عائقاً في العمل السياسي؛ ففي الاختلاف والتنوع قوة لا ضعف، وكل يقدم برامجه التي تفيد المجتمع ككل لا البرامج التفكيكية. وهنا لا بد من التنبيه للأقوال التي يتفوه بها بعض ممثلي التيارات الدينية السياسية كقول أحدهم في مصر "نحن نرحب باستضافة الأقباط في مصر" فنقول له من أنت لتقول للأقباط المصريين العرب الأقحاح إنهم مرحب بهم في مصر؟ الأقباط مكون أساسي في مصر ومواطنتهم يستمدونها من وجودهم التاريخي في مصر لا من منحة يعطيها أحد لهم.
وفي النهاية نؤكد أن الحل الأمثل في مواجهة مشاريع التفكيك في الوطن العربي تنطلق من الوحدة العربية المبنية على أسس انتماء جميع مكونات هذا النسيج إلى الأمة الواحدة وبالاعتراف بضرورة وجود دولة تنفصل عن الدين لتكون دولة لجميع مواطنيها.

Friday 22 January 2016

تأويل النص الديني

التأويل والحداثة
د. توفيق شومر

أي نص ديني هو نص مقدس لمعتنقي الديانة التي يعبر عنها. وهو بهذه الصفة نص مطلق غير قابل للنقاش يدافع عنه المؤمنون به بحيث لا يترك أي مجال للتفاهم حول بعض المسائل المحورية التي يقر بها النص. وحتى يكون النص الديني سرمدياً يمكّن أفراد المعتقد الديني من الإيمان به في كل زمان ومكان يستلزم أن يتضمن إقراراً بأنه نص صالح لكل زمان ومكان. والمعضلة هنا أنه نص يخاطب في الأساس عقول البشر أيضاً، وبالتالي فيجدر على النصوص الدينية أن تكون قد كتبت بلغة تتناسب مع عقول المتلقين للرسالة الدينية. فالنص الديني المقدم قبل ثلاث آلاف عام لا يمكن أن يستخدم الخطاب نفسه الذي يستخدمه النص الديني المقدم قبل ألفي عام، وسيختلف بالضرورة عن النص المقدم قبل أربعة عشر قرناً.
إذ أن المعرفة في تلك الأزمنة كانت محدودة، والبشر غير قادرين على استيعاب علوم القرون السابقة، فكيف هي الحال بعلوم اليوم. بالمقابل فالله بالتعريف كلي المعرفة، يعرف علوم اليوم والأمس قبله وكل علوم المستقبل. فلماذا لم ينطق النص الديني بأي من هذه العلوم؟ الجواب أبسط من أن يُبحث فيه، فلو أن النص الكتابي على سبيل المثال، خاطب عقول الأمة بأن الإنسان سيكون قادراً وهو جالس في بيته أن يخاطب ويرى شخصاً آخر في أقصي المعمورة دون أن يحتاج لأن ينتقل من مكانه قيد أنملة، لما صدقت البشرية الرسل.
لذا لا بد من احتواء النصوص الدينية على مستويات من الخطاب، مستوى مباشر يصل عقول وأذهان البشر في الزمن الذي يقدم فيه، ومستوى آخر يستطيع أن يعطي خطاباً عاماً يمكن تأويله فكرياً وفلسفياً لكي يصلح لكل زمان ومكان. ومستوى ثالث قد لا يكون بمقدور البشر تفسيره وتأويله، إذا ما قلنا أن المعرفة الكلية عند الله أبعد من أن يستطيع البشر الوصول إليها.
هذا يعني أن البحث في أغراض ومعاني وأهداف الخطاب الديني يجب ألا تتوقف أبداً. وهذا يعني أيضاً أن المفسرين الآوائل للنصوص الدينية لا يمكنهم بأي حال أن يكونوا قادرين على تفسير النص الديني كما يجب أن يفسر. فالعلم الذي توافر عند المفسرين الآوائل لا يمكن أن يرتقى إلى جزء مما نعرفه اليوم.
قد يقول البعض أن علوم الدين تختلف عن العلم بظواهر الطبيعة، وبما أن الاهتمام بالدين كان عند العلماء الآوائل أفضل من الاهتمام بالدين اليوم، فهذا يعني أنهم أكثر قدرة على فهم أمور الدين من الذين يحاولوا تأويله اليوم. وأقول لا انفصال بين فروع العلم، كما أن هناك قضايا خاصة منها قدرة الإنسان، وعقله، وخبراته، وتأثير هذه الخبرات وكيف ننظر إلى المعرفة وإلى الإدراك وغيرها من القضايا الشائكة والتي وصلنا إلى معارف فيها تفوق حد الوصف ما كان يعرف سابقاً وترتبط بشكل وثيق بعلوم الدين، وبالتالي فالفهم الديني بحاجة إلى إعادة نظر في كثير من قضاياه.
أذن فإن التبرير لفتح باب الاجتهاد والتأويل مرة أخرى يتعدى القول بالضرورة لأخذ موقف من قضايا لم تكن معروفة سابقاً كالاستنساخ أو القتل الرحيم، إلى القول أن ما كنا نعرفه سابقاً بالارتباط مع كل القضايا المعرفية لا يمكن مقارنته بأي حال مع ما نعرفه اليوم. وبالتالي فإن التفسير والتأويل للنص الديني الذي قدمه فقهاء وعلماء الدين سابقاً لا يمكن بحال أن يرقى إلى المستوى الشافي لتشاؤلاتنا.
أما الحداثة فكما نعرف هي موقف فلسفي يتميز بإعمال العقل في القضايا التي تواجه الإنسان، بالاستناد إلى السببية التي تربط بين الأحداث في العالم وأسباب واضحة لهذه الأحداث التي تنتمي بشكل أساسي إلى هذا العالم لا إلى عوالم غيبية. وهي تقر بأننا نستطيع أن نعرف مكنونات هذا العالم مهما بلغت التعقيدات التي تترافق مع هذه المعرفة. ولكي نصل إلى هذه المعرفة لا بد لنا من أن نستخدم عقولنا لا أن نعتمد على أن معرفة خارجية، فكما نعرف أن باب الوحي أغلق منذ وفاة الرسول. ولذلك فالأمور الميتافيزيقية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا تأسست على العقل أولاً.
وعلى الرغم من أن تاريخ الفلسفة يرجع مفاهيم الحداثة إلى الفيلسوف الألماني امانويل كانط، إلا أن التراث العربي الإسلامي قد قدم مفكرين عظام تمكنوا ومنذ مرحلة مبكرة جداً في التاريخ العربي الإسلامي من أن يدركوا مفاهيم الحداثة هذه. لكننا اليوم أبعد ما نكون عنها. ومن الأمثلة المعروفة على ضرورة العقل، ابن رشد وموقفه المعروف في كتابه "فصل المقال"، والقاضي عبد الجبار وموقفه في كتابه "شرح الأصول الخمسة". والذي أكد لنا في الفصل الأول من كتابه، بأن العلم هو المنطلق الأساسي للمعرفة وبغيره لا معرفة ممكنة التأسيس، وشمل بذلك معرفة الله ووجوب هذه المعرفة. فهو لذلك يميز بين العلم والاعتقاد، ويحدد أن الله لا يعرف بالضرورة وإنما بالعقل، ثم يبحث في الأدلة التي تثبت أن معرفة الله واجبة.
وهنا نصل إلى النقطة الهامة في هذه المقارنة. بما أن الحداثة أساسها العلم والعقل، وبما أن النص الديني لا بد أن يكون متوافقاً مع العلم والعقل، لا من منطلق حداثي فقط بل من منطلق الفكر العقلاني العربي، فإن هناك ضرورة لأن يتم التعامل مع النص الديني بالاعتماد على العلم. وبما أن العلم يتطور، بل بما أن العلم دائم التطور، فأن هذا يفرض علينا أن نتعامل مع النص الديني انطلاقاً من تطور معرفتنا العلمية.
ومن الأمثلة على أهمية أن نفكر بالعقل فيما يقوله النص التوراتي التالي. فكما يقر كل مؤمن، أن الله حق وعادل كلي القدرة ومتعال. فإذا جاء نص ديني وقال أن "يعقوب قد تعارك مع الله وانتصر" ولذلك فإن الله "المهزوم" باركه وأسماه "إسرائيل" ومنحه "أرض الميعاد له ولنسله من بعده"، فإن المؤمن العاقل سيقول أن هذا كلام لا يصح لأن الله حق وعادل وكلي القدرة ومتعال، ولا يمكن لمخلوق التغلب عليه. مما يدفع إلى الاعتقاد بأن هناك خلل في النص الديني، وقد يكون الخلل ناتج عن أن النص الديني لا يمثل الحقيقة الدينية، وهو نص محور ومحرف لا يمكن الاعتماد عليه في عرف الكثيرين، أو أن يقول البعض بأن هذا النص يتحدث عن رب آخر غير الله.
على المؤمن إذا أراد الدفاع عن إيمانه أن يكون قادراً على التعامل مع النص الديني بتوافقه واختلافه مع المعرفة العلمية وإلا كان بمقدور الضالعين في لعبة المنطق تجاوز قدرات النص واثبات التناقضات الكثيرة الموجودة فيه، إذا ما أخذت بمعناها اللغوي فقط لا بمستويات الخطاب فيه.                                     

Tuesday 19 January 2016

الثابت والمتحرك في العلم

الثابت والمتحرك في العلم

د. توفيق شومر


          يعتقد أغلب الناس، وحتى من يحمل شهادات علمية في التخصصات الأساسية، بأن قوانين العلم هي قوانين الطبيعة التي لا نلعب دوراً في صياغتها وإنما كل ما نفعله هو أن نكتشفها من خلال دراستنا التجريبية (أو النظرية في بعض الأحيان) للعالم المحيط بنا. إن هذه النظرة محدودة الأفق وتجانب عين الصواب.
          ينزع الإنسان بطبعه إلى البحث عن تعميم يريحه من التفكير بالتفاصيل المملة للأشياء. فهو لا يريد مثلاُ أن يدخل في تفاصيل الاختلافات الخاصة بين بريطاني وبريطاني آخر، أو ياباني وياباني آخر، ولذلك تجده يقول في أغلب الأحيان أن كل اليابانيين متشابهين ولا يستطيع أن يميز بينهم في الشكل. وتترافق مع هذه النزعة للتعميم نزعة أخرى للبحث عن النظام والانتظام في الأشياء ليستطيع أن يرابط بينها. وتبدأ هذه النظرة عند البشر منذ الصغر. لذلك عندما ينظر الأطفال إلى الغيوم فأنهم يحاولون أن يجدوا نوعاً من الانتظام، فيخال لهم مثلاً أن غيمة ما شكلها مثل النعجة وأخرى تشبه الجمل وهكذا. وتعتمد الأشكال التي يتخيلها الأطفال على بعض الخطوط الموجودة في الغيوم وعلى المخزون المعرفي الذي يحملونه. فهم يكملون الرسوم التي أمامهم بأشكال في مخيالهم فيرابطون بين الخيوط ليصلوا إلى الأشكال التي يعتقدون أنهم يشاهدونها.
          هذا التصرف لدى الأطفال يشابه تصرفات البشر بشكل عام. ففي كثير من الأحيان ينزع العقل إلى وصل خطوط ما لتتشكل صورة ما مألوفة له من خطوط عشوائية أمامه. ففي تقنيات الرسم مثلاً ينزع الفنان إلى تحديد مجموعة من الخطوط التي يمكنها أن تحدد منظور معين لدى المتلقي ويكتفي بهذه الخطوط ليعبر عن الشكل الذي يريد رسمه. ويمكن لمن يريد أن يستزيد بالتمعن بمخاطر التخيل وما يمكنه أن يوصلنا إليه من صور ورسوم قد لا تكون موجودة أن يذهب إلى الصفحة الالكترونية الخاصة بالأوهام التابعة لجامعة مانشستر ليقف على العديد من هذه الأوهام الممكنة:     http://dragon.uml.edu/psych/illusion.html  .
          فبالقدر ما تفتحه هذه الحقيقة أمام العقل الإنساني من فرص لكي يتمكن من ربط الأمور مع بعضها البعض والوصول إلى نتائج من مقدمات قد لا تكون مرتبطة ولكنها مترابطة، فإنها أيضاً تفتح الآفاق نحو اقتراح ترابط قد لا يكون صحيحاً أو قد لا يساعد المعرفة الإنسانية. وهذا ما يحدث في كثير من الأحيان في العلم.
          هناك الكثير من الحقائق العلمية المهمة التي لا يمكن لأي كان وعلى مدى قرون وقرون أن ينكرها أو أن يثبت خطأها فهي انتقلت من إطار الفرضيات إلى إطار الحقائق العلمية الثابتة. ومن هذه الحقائق على سبيل المثال حقيقة أن الماء المزاح من الوعاء يساوي حجم الجسم المغمور بالماء داخله. هذه الحقيقة العلمية والتي تأخذ صفة "القاعدة" (قاعدة أرخميدس) تستطيع كما الكثير من مثيلاتها أن تصمد في وجه التغيرات في العلم. فخلال الثورات العلمية الكبيرة وعندما يتغير ما يسميه الفيلسوف الشهير توماس كون الإطار المعرفي، أو كما يهوى البعض أن ينقلوه إلى العربية باسمه الإنجليزي: (البارادايم- Paradigm shift)، تتغير معه المفاهيم والنظريات المسيطرة في فضاء العلم، لكن القواعد الثابتة للعلم من مثل قاعدة أرخميدس تبقى كما هي في الإطار المعرفي الجديد.
          لكن ماذا عن القوانين؟ هناك الكثير من القوانين التي ما زالت صامدة لمدة طويلة من الزمن لكن معظم القوانين التي كانت معروفة مثلاً في القرن السابع عشر قد تغيرت ومن لم يتغير منها فقد أصبح لها مدلولات أخرى ومعاني مختلفة عن تلك التي كانت قائمة لحظة اقتراحها. لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، قوانين نيوتن في القوة. فعلى الرغم من أنها ما زالت تقريب ممتاز للتعامل مع القوى المؤثرة على الأجسام ضمن الأبعاد الطبيعية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية إلا أن الكثير من المفاهيم المرافقة لها قد تغير بشكل جذري عن المفاهيم التي وضعها نيوتن. فمفهوم الكتلة التي نتعامل معه اليوم ليس هو مفهوم الكتلة حسب الفهم النيوتوني القديم، كما أن نيوتن قد قدم قانونه على أنه قانون يسبح في فضاء لا نهائي وزمان سرمدي، والزمان والمكان بحسب الفهم النيوتوني يختلفان عن ما نعرفه اليوم عن الزمان والمكان. فكما نعرف اليوم فإن الزمان هو بعد رابع أساسي في مفهوم الفضاء الهندسي فضاء الزمكان (الزمان- المكان).  وقوانين نيوتن ستفشل عندما نتعامل مع السرعات العالية جداً وعندما نتعامل مع الكتل الصغيرة جداً، وهذه اللحظات في الفشل النيوتوني هي مجالات الثورات العلمية المهمة لبداية القرن العشرين والمتمثلة بثورة النسبية وثورة ميكانيكا الكم.
          وبالتحليل الدقيق لما هو ثابت (غير متحرك) من الإطار المعرفي النيوتوني، ندرك بأنه النماذج الممثلة للظواهر الحقيقية وكل ما عدا ذلك تم تجاوزه على المستوى النظري. وبالتالي فالثابت هنا لا يرتبط بالنظام النيوتوني كما قدمه العقل العلمي في ذلك الوقت والذي أعتمد في تقديمه على مجموعة الصور المعرفية الراسخة عند نيوتن وكيف تمكن نيوتن من ربط خطوط المعرفة التي حصل عليها من دراسته للظواهر الطبيعية المعروفة في زمانه.
          العلم متحرك وثوري بطبيعته وهو بذلك يتجاوز الحدود التي يضعها الإنسان له في كل مرة. فنحن نكتشف الجديد الذي لا يتناسب مع الإطار المعرفي القديم بشكل دائم. وهذه المعرفة الجديدة هي التي تساعد على تقدم العلم.             

    

Friday 15 January 2016

أيها الشباب العربي: عن أي تغيير نتحدث؟

أيها الشباب العربي: عن أي تغيير نتحدث؟ 
د. توفيق شومر

لا بد أن الشباب العربي يدرك تماماً أهمية التغيير وضرورته، والرسالة الأساسية التي أود أن اشارككم بها هنا تنبع من ضرورة رفع شعار موحد للشباب العربي مفاده أنهم يستطيعون بالفعل تحقيق التغيير. الشباب هو الرافعة الأساسية للتغيير وبغير الدم الشاب والجهد الحقيقي والمضني لن يكون هناك إمكانية للتغيير.
لكن الشباب القادر على التغيير هم الشباب الواعي المتسلح بالمعرفة والثقافة العميقة، لا ذلك الشباب المترهل الراكض وراء الثقافات المعولمة المتهاوية، أو ذاك المتهاوي في أحضان السلفية والتعصب. فالمعرفة هي القوة الفعلية التي تمكن الشباب من إدراك الاحتياجات الحقيقية لهم وتبيان الطرق التي يستطيعون بها الوصول إلى أهدافهم المعلنة. وبما أن المعلومات المتوفرة اليوم منفجرة على ذاتها بحيث يزيد ما يطرح على شبكة الانترنت عن مليون صفحة يومياً، هذا بالإضافة إلى ما يطبع من صحف ومجلات وكتب، فيصبح لزاماً على الشباب أن يتعلموا كيفية تحديد ما يفيدهم من معلومات وما لا يفيدهم.
القضية الأخرى المهمة هنا والتي يحتاجها المجتمع تنبع من الحاجة للوصول إلى الكتلة الحرجة الضرورية للتغيير الايجابي، التغيير الذي يدرك التطورات الحادثة في العالم، التغيير الذي يرافقه التمسك بالعلم والمعرفة، لا ذلك التغيير الذي يعيدنا إلى غياهب الجهالة والاحتكام للماضي بمركباته السلبية. والتغيير لا يتم بجهود فردية متفرقة هنا وهناك، على أهمية هذه الجهود وضرورتها، إنما يحدث عندما يتمكن الجسم الأساسي من المجتمع من إدراك أهمية التغيير، وأن يتمكن من إدراك أن هذا التغيير إنما هو في صالح المجتمع ككل، لا في صالح زمرة مستفيدة.
وبالإضافة إلى هذه العوامل المهمة في المهام الملقاة على عاتق الشباب، فهناك مهمة معرفة ودراسة الوضع القائم في العالم، والوضع القائم في الوطن العربي لتحديد النواقص والاحتياجات التي يحتاجها المجتمع ليتمكن من التحرك نحو التغيير. أي أن مهمة الشباب أن يفهموا واقعهم بشكل دقيق، من خلال دراسة حثيثة لكل العوامل التي تحيط بهم ليتمكنوا من وضع الحلول التي يعتقدوا أنها تمكنهم من تحقيق التغيير.
ولكن هل هذا يعني أن المهمة قد ألقيت على عاتق الشباب وأن باقي المجتمع لا حول له ولا قوة؟ بالتأكيد لا، لكن من سبقوكم في العمل العام قد بذلوا جهود وقدموا تضحيات لكنهم في النهاية لم يتمكنوا من الوصول بالمجتمع إلى الكتلة الحرجة القادرة على التغيير. وبالتالي فمن المهم دراسة الطرق التي اتبعت ودراسة النجاحات السابقة والإخفاقات السابقة للوصول إلى فهم أعمق للتجربة لكي يتمكن الشباب من المسير بطرق جديدة قد تكون موفقة أكثر مما كانت عليه طرق أسلافهم.    
ما يحدث اليوم في ظل مرحلة اختلاط الأوراق التي يمر بها عالمنا العربي، والتحول إلى مرحلة من الظلامية العارمة وانتشار الصراع المسلح بين المكونات الاجتماعية المختلفة في الوطن العربي، والتي تزكيه النعرات الدينية والطائفية والقبلية، في ظل غياب العقلانية والعلمية وفي ظل التعريفات المجتزئة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تحصر الديمقراطية "بديمقراطية سياسية" محدودة يحكمها مفهوم ديمقراطية صناديق الاقتراع، ودون المساس ببنية النظم القائمة إلا على المستوى الشكلي فقط، يدفع إلى التساؤل حول ما هي العوامل المؤثرة بالفعل في بنية التحول نحو تغيير سياسي حقيقي في الوطن العربي وكيف يمكن لهذه التغيير أن يتبنى ديمقراطية حقيقية؟
يجب في البداية أن نؤكد أن الديمقراطية هي سيرورة لا يمكن أن تحدث بمجرد الحديث عنها، إنما لا بد من أن تترافق مع جملة من التحولات الاجتماعية والسياسية والقانونية التي تجعل منها مركباً أساسياً في التفكير اليومي للمواطن العربي في تعامله مع جميع القضايا لا مع القضايا السياسية فقط. الرافعة الأساسية لهذه السيرورة هم الشباب الواعي المتسلح بمصالح مجتمعه العربي الرافض للتبعية لأي قوى أجنبية أمريكية كانت أم تركية أم إيرانية. القضية لا ترتبط فقط في فك التبعية من القوى المهيمنة اليوم، ولكن أيضاً، وبشكل أساسي، في بناء قوانا الذاتية التي تجعلنا نتعامل مع الآخرين بندية ومساواة لا بضعف وهوان. 
ولذلك لا بد هنا أن نقول لشبابنا العربي: نعم أنتم من سيتمكن بالفعل من تحقيق تحول المجتمع ليكون مجتمعاً مدنياً بالمعنى الحرفي والتقني للكلمة، لا بشكله الحالي المليء بالشعارات الفارغة. المجتمع المدني لا يتشكل فقط من منظمات المجتمع المدني بل بالأساس من قدرة المجتمع على أن يكون مجتمعاً مدنياً، يقبل الاختلاف والتعددية.   
وترتبط قدرة المجتمع على التحول ليكون بالفعل مجتمعاً مدنياً على مفهوم بسيط هو مفهوم المواطنة. فالمواطنة عماد التحول نحو مجتمع مدني. والمواطنة عماد تحول المجتمع نحو الحرية والديمقراطية الحقيقية.
لكي يكون الفرد مواطناً بالمعنى التقني للكلمة، لا بمفهوم من يحمل جواز سفر دولة، فعلى هذا الفرد-المواطن أن يشعر بأنه جزءاً من الدولة وعلى أن مشاركته الفاعلة في النشاطات المجتمعية والسياسية تؤدي بالضرورة إلى التأثير الفاعل على مجريات الأمور في الدولة. ومن أهم المرتكزات الأساسية لهذا الشعور ينبع من المفهوم المتعارف عليه للحقوق المدنية والذي تبنى عليه علاقة الفرد بالدولة: أن الحكم هو من الشعب وللشعب، وأن الحقوق الأساسية للإنسان هي حقوق طبيعية له لا يحق لأي كان أن يحرمه منها. وبالتالي في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بأن مشاركته السياسية هي بالفعل التي تؤدي إلى تحديد من سيقود البلاد على المستوى السياسي في تلك اللحظة فقط يبدأ الفرد بالتحول في شعوره نحو الدولة من كونه فرداً فيها إلى كونه مواطناً له حقوقه وعليه واجباته. لكن طالما أن الفرد لا يشعر أن بيده حيلة ولا يشعر بأنه قادر على التأثير بالسياسات العامة، فأنه لن يتمكن من التأثير بالفعل في هذه السياسات العامة ولن يكون لديه أدى مشاعر المواطنة.
المواطنة هي أن تشعر بأن لك حقوق يضمنها الدستور لا الولاء للسلطة. أي أنك ستأخذ الامتيازات عينها التي يأخذها أي مواطن آخر إذا كنت مؤيداً لسياسة الحكومة القائمة أم معارضاً لها.
المواطنة تعني أن الفرد إذا أختلف بتحليله لمسألة ما عن تحليل غيره، ولكن ضمن انتمائه لوطنه وضمن التزامه بمصلحة الوطن، فهذا لن يجعله خائناً أو عميلاً، فالاختلاف لا يجب أن يفسد للود قضية. الخيانة تتمثل في أن يقوم المواطن بخدمة أهداف أعداء الأمة والتسليم بالتبعية وقبول الاحتلال.
ويترافق مع المواطنة مفهوم المسؤولية الاجتماعيةSocial Responsibility  وهي تنطلق بشكل أساسي من ضرورة الانخراط الطوعي للمواطنين في علاقتهم مع الدولة، وفي مشاركتهم المجتمعية في بناء المؤسسات المدنية والمجتمعية التي يمكنها أن تسهم في تقدم المجتمع، بما في ذلك الاختيار الحر والمسؤول لممثلي الشعب ولمن يتحدث بأسمهم.  
ولكن ما الدور الذي يمكن للشباب أن يلعبه في هذه المعادلة؟ نقول بأن الشباب هم الرافعة الأساسية للتمكن من التحول الفعلي نحو مجتمع مدني حقيقي وفاعل. فالشباب بمشاركتهم الفاعلة في العمل العام سيتمكنون من فرض دورهم وفعلهم على المجتمع وبالتالي وبهذه الممارسة هم يلغون شعور الاغتراب المسيطر على الكثير منهم، ويعملون إلى الوصول إلى حقوقهم كمواطنين فاعلين. المجتمعات البشرية الديمقراطية والمدنية والمتطورة لم تصل إلى الحال التي هي عليه اليوم دون عمل دءوب وتضحيات من قبل مواطنيها، بل أنها استمرت في التضحية لأكثر من قرنين من الزمان إلى اللحظة التي يعيشوها اليوم.
التغيير الايجابي، المبني على الانفكاك من التبعية والداعم لبناء القوى الذاتية للمجتمع لكي يتمكن من التحول إلى مجتمع منتج متسلح بالعقل والعلم والمعرفة النقدية، هو الشعار الذي يجب أن يرفعه الشباب، والتغيير لا يمكن أن يتحقق بغير الانخراط في العمل نحو التغيير من جسم مناسب من الشباب. فإذا لم يصل عدد الشباب المقتنعين بالتغيير وبقدرتهم على التغيير إلى ما يمكن تسميته بالكتلة الحرجة للتغيير.

صحيح أن التراكمات الصغيرة التي تعمل عليها المنظمات والتنظيمات المختلفة يمكنها أن تشكل حجم يمكنه أن يؤدي إلى تغيرات نوعية على صعيد معين إلا أنها لا تشكل التراكم الكافي للتغيير المنشود. لذلك فعلى الشباب أن يشكلوا روافع اجتماعية تتعدى المنظمات العاملة على قضايا صغيرة ومحددة إلى العمل معاً للوصول إلى الكتلة الكافية للتغيير الاجتماعي.   

Wednesday 13 January 2016

بين العلم وشبه العلم




حاولت في حلقة سابقة أن أميز بين العلم واللاعلم، وهنا أريد أن أطرح مفهوم جديد يتعلق بشبه العلم. هناك الكثير من الفروع المعرفية التي يتأرجح فيها الحكم بين أن تكون علماً وبين أن لا تكون، فكيف يمكن أن نتصرف معها؟ فهناك على سبيل المثال نظريات التخاطر، والتي تقول أن بعض البشر يستطيعون أن يلتقطوا ما يفكر به آخرون دون أن تتم عملية نقل الأفكار باللغة كما هو متعارف عليه. وبالتأكيد فإن المراكز العلمية المرموقة ترفض أن تعترف بهذا النوع من المعرفة على أنه معرفة علمية. وعلى الرغم من ذلك فكثير من الأبحاث التي نظمها علماء مرموقون في علم النفس حاولت أن تدرس الظاهرة، وأن تدرس إمكانية الاعتراف بها كظاهرة يمكن دراستها علمياً.
وكان هناك جملة من التفسيرات التي نقول عنها إنها لها وقع مشابه للتفسيرات العلمية
(
It Sounds Scientific)، كالتفسير الذي يقول بأن كل دماغ إنساني يرسل مجموعة من الذبذبات الخاصة التي يتميز بها، وبالتالي فإذا كان هناك شخص آخر يحمل نفس الذبذبات فهذا الشخص الآخر يستطيع أن يلتقط ما يفكر به الشخص الآخر وبالتالي أن يملك ملكة التخاطر. ويقول لنا من يوافقون على مثل هذا التفسير إن هذا هو التبرير لظاهرة ألفها الناس كثيراً ولكنهم لم يفسروها، إلا وهي ظاهرة أن تفكر بأحد لم تره أو تسمع عنه شيئاً لفترة طويلة من الزمن، وقبل دقائق معدودة من رؤيتك له فعلاً. وهنا يقول هذا التفسير بأن ذلك عائد إلى أن دماغك تمكن من التقاط ذبذبات الشخص الآخر الخاصة مما ساعد على التفكير به قبل رؤيته الفعلية.
كما نرى فإن هذا النوع من التفسيرات حاول أن يستخدم لغة علمية تحاول أن تبرر وجوداً لظاهرة من الصعب التحقق منها لأنها تعتمد على حقائق ذاتية لا يمكن عكسها موضوعياً باستقلال عن الذوات المرتبطين بالتبرير، وبالتالي لن يكون التفسير موضوعياً بالمعنى المقبول به علمياً (أي من النوع الذي يمكن الإقرار به من قبل معظم الناس دون ريبة أو شك). وبالتأكيد لم يحاول التفسير أن يعزو القدرة على التخاطر إلى قوى كونية أو قوى خارقة للطبيعة أو خارج الطبيعة مما جعل منه ما نسميه "يستخدم لغة علمية". وهنا وعلى الرغم من عدم القناعة بالتخاطر أو بإمكانيته فإننا لا نستطيع أن نرفض القول بأن التفسير المقدم يمكن أن يكون تفسيراً مقبولاً على المستوى العلمي في المستقبل.
لم يكن يعترف الطب الغربي بأي نوع من الطب غير ذلك الذي يعتمد على إيجاد التركيب الكيميائي المناسب لمكافحة الأمراض التي تفتك بالجسد وبالتالي فلم يكن يعترف لا بالطب الصيني ولا بالطب الهندي ولا بطب الأعشاب، على الرغم من أن هذه الأنواع من الطبابة لها تراث عريق من البحث العلمي الجاد في كل من الهند والصين والحضارة العربية الإسلامية. لكن الطب الغربي اضطر أن يعترف بهذه الأنواع من الطبابة لأنه رأى أن الكثير من العناصر الكيميائية المستخدمة في الأدوية الحديثة لها أعراض جانبية غير محببة، كما أن بعض الأمراض التي لم يتمكن الطب الكيميائي من معالجتها تتمكن الأنواع الأخرى منها. فنرى أن الوخز بالإبر، والعلاج بالأعشاب، والعلاج بالتدليك، بدأت تغزو مؤسسات أكاديمية عريقة ويتم طرح تخصصات بها والاهتمام بها.
هنا كان اعتراف الطب الغربي بهذه الأنواع من الطبابة طبيعياً ضمن تطور حقل الطب، لأن التفسيرات المقدمة من قبل هذه الأنواع تفسيرات لا بد أن يتم الاعتراف بها لأنها تفسيرات أقل ما يقال عنه إنه تفسيرات علمية. هذا لا ينسحب على كثير مما يعرف في بلادنا بالطب الشعبي، والذي يعتمد في تفسيراته ونمط العلاج المقدم على خبرات لاعلمية أو على قوى تقبع خارج العالم والتي لا يمكن الإقرار بها، أو حتى تخيل أنها يمكن أن تكون تفسيرات مقبولة علمياً في أي يوم من الأيام مستقبلاً: كالضرب "لطرد الأرواح الشريرة المتلبسة أحدهم" والتي يقال عن الذين يعانون من أمراض نفسية تحتاج إلى علاج نفسي جاد، والتي يقرر الطب الشعبي بأن علاجها يكون إما بالضرب المبرح أو بالرقع والودع وغير ذلك. أو بتلاوة الآيات الكريمة كأسلوب للعلاج دون تقديم أي دواء أو علاج فعلي. 
هناك الكثير من الظواهر التي لم يتمكن العلم من تفسيرها بعد، وهناك الكثير من النظريات التي تفسر هذه الظواهر انطلاقاً من قناعات معينة وباستخدام نظريات علمية، لكن لم يتم الاعتراف بها على أنها تشكل جزءاً من الجسم العلمي. إن هذه النظريات التي تستخدم "لغة علمية" يمكن القول عنها بأنها نظريات شبه علمية أو على أطراف العلم، ويمكن لنا أن نتخيل أنها ستكون جزءاً من العلم في يوم من الأيام.  
تعطينا الفيزياء مثالاً صارخاً في هذا الاتجاه: ففي الموصلية الفائقة كان الاعتقاد العلمي المعتمد على النظرية السائدة (1950) يقول بأن الموصلية الفائقة غير ممكنة إلا ضمن درجات تقترب كثيراً من الصفر المطلق (-273 درجة مئوية)، وبالتحديد تحت درجة 30 مطلق (-243 درجة مئوية). وبالرغم من قبول ذلك من معظم الفيزيائيين وبالرغم من أن أصحاب النظرية السائدة حصلوا على جائزة نوبل (1974) إلا أن فيزيائي واحد أصر أن يقدم تفسيراً آخر، لكنه لم يفلح في تقديم برهان على قناعاته، فعاش منبوذاً بعيداً عن المراكز العلمية، لكنه علم جيلاً من العلماء نظرياته المغايرة لما هو سائد، وتمكن اثنان من تلاميذه أن يفجروا ثورة في عالم الموصلية الفائقة عام 1987 بأن صنعوا موصلاً فائقاً يعمل على درجة 172 مطلق (-101 درجة مئوية)، أي أكثر ب140 درجة عن أعلى درجة تعترف بها النظرية السائدة.
وهنا نقول بأنه وعلى الرغم من عدم الاعتراف بشبه العلم اليوم إلا أنه لا يمكننا القول عن نظرياته المقدمة أنها نظريات لا-علمية أو خرافية، كل ما يمكن القول عنها إنها نظريات لا يمكن الإقرار بها اليوم لعدم كفاية الأدلة الداعمة لها. 
بين العلم واللا-علم
د. توفيق شومر

وقد تكون نقطة البدء المنطقية في العلاقة بين العلم والمجتمع هي تعريف العلم وتحديد الاختلاف بين العلم واللا-علم. يعرف الكثيرون العلم على أنه نشاط منظم من الاستكشاف يراد منه الوصول إلى حقيقة ما. ويتضمن العلم هدفاً تفسيرياً تبريرياً لتوضيح الأسباب الكامنة وراء الظواهر الطبيعية. ولكن هذه الميزات لا تنحصر بالعلم وبالتالي لا يمكننا أن نلتزم بها فقط أذا ما أردنا توضيح معنى العلم.
أذن فلا بد من تحديد وتوضيح هذا التعريف. ولكي نستطيع القيام بذلك فلا بد لنا أن نوضح حدود العلم وموضوعه لكي نستطيع أن نلتزم بمخرجاته. نقول إن حقل تطبيق العلم هو العالم الطبيعي، حيث يمكن التحقق من صدق مقولات العلم إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وبالتالي فإن كل ما يتعلق بموضوعات ما وراء الطبيعة من غيبيات أو ماورائيات، أو قضايا إيمانية لا يمكن التحقق منها على المستوى الطبيعي تندرج كلها في فلك الاعتقادات وتخرج من فلك العلم.
وبذلك يكون معنى العلم: هو جملة التفسيرات والنظريات والمناهج التي يقدمها البشر لتفسير أو للتعرف على خصائص موجودات العالم الطبيعي من ظواهر وكائنات وعلاقات بين هذه الكائنات أو الظواهر.
السؤال الأول الذي يتبادر للذهن بعد الإقرار بهذا التعريف هو لماذا يمكن اعتبار بعض التفسيرات والنظريات عن العالم الطبيعي تفسيرات ونظريات يمكن قبولها على أنها نظريات علمية بالرغم من غرابتها وعدم انسجامها مع الحس العام، بينما يحكم على كثير من النظريات الأخرى التي تتعامل مع العالم الطبيعي على أنها نظريات لا علمية؟ فقارئو الأبراج يقولون إنهم لم يصلوا إلى القدرة على معرفة الطالع والأبراج إلا بعد دراسة طويلة لأسرار "علم الأبراج" كما يسمونه. وهم يقولون إن استنتاجاتهم مبنية على حسابات دقيقة لعلاقة الكواكب والنجوم والأفلاك بيوم وساعة ميلاد الفرد، وبالتالي فإن ما يقدمونه من معلومات مبني على نظريات ومعلومات ودراسات وليس مبنياً على محض افتراضات. وبالرغم من هذا كله فإن قراءة الأبراج ليست علماً ومهما تطورت أساليب المنجمين بها من استخدام للكمبيوتر والتكنولوجيا الحديثة سيبقى هذا الشكل من البحث خارج إطار العلم.
وعلى الطرف الآخر للمعادلة وإلى اليوم، وعلى الرغم من معرفتنا الدقيقة بخطأ النظرية التي قدمها عالم البيولوجيا لامارك الذي عاش في القرن التاسع عشر حول إمكانية توريث الصفات المكتسبة، إلا أننا ما زلنا نعتقد أن لامارك عالم بيولوجيا مهم، وأن نظريته بالرغم من خطئها ما زالت تعتبر بأنها نظرية علمية أثبت فشلها.
وبالتالي فما هو الذي يفرق بين هذين المثالين؟ الفارق الأساسي هو في إمكانية التحقق من صدق التنبؤات التي يقدمها كل منهما، فبينما تعطينا إمكانية التنبؤ في العلم نتائج دقيقة عما يمكن أن يحدث في المستقبل ويمكننا أن نكون على يقين بأن ما تقوله لنا النظريات العلمية عن المستقبل بأنه سيحدث لا محالة، بينما لا نستطيع أن نركن إلى التنبؤات التي يقدمها لنا المنجمون. فعلى الرغم من أنهم يستطيعون أن يقدموا جملاً فضفاضة يمكن أن يتم تفسيرها على نحو مختلف لكل شخص، وبالتالي أن يصدقوا بحسب تفسير أحدهم بينما يكذبوا بحسب تفسير آخر، إلا أننا لا يمكننا أن نعتمد على التنبؤات التي يقدمونها.
في العلم نستطيع أن نقول بأن الماء سيتبخر عند درجة 100 مئوية، ونحن نثق أن هذا سيحدث بالفعل عندما تصل درجة حرارة الماء إلى 100، بينما عندما يقول منجم أن "أمامك سفر على بعد إشارتين"، فهذا وعلى الرغم من أنه يمكن أن يصدق لعموميته الشديدة (فالإشارتان يمكن أن تكونا: يومين، أسبوعين، شهرين، سنتين، عقدين، ....، وبالتالي فإنه من الممكن لكثير من الناس أن تصدق معهم التنبؤ)، ولكن مثل هذا التنبؤ بعيد عن أن يكون تنبؤاً علمياً. فنحن لا نستطيع أن ندرك بالضبط متى سيحدث السفر، وفي العلم لا مجال للتأويل بل يجب أن يكون هناك حكم واضح حول النتيجة الممكنة للتنبؤ.
ولولا إمكانية التنبؤ هذه لفشلنا في الوصول إلى ما وصلنا إليه من علم وتكنولوجيا: فالطائرات بنيت اعتماداً على قوانين الميكانيكا والموائع لتطير، ونحن نعرف أنها ستطير قبل أن تحلق في الفضاء، كما أننا نعرف أن البطاريات ستبقى تعمل ما لم تخدش أو تستهلك، ونعرف كيف نصنع التلفاز والكمبيوتر والسيارة ونعرف ما ينفع من علاج لمعظم الأمراض ونعرف ونعرف...    
وعلى الرغم من قولنا هذا فإن العلم الحديث، وخاصة ميكانيكا الكم تفشل في أن تحقق هذا الشرط في العلم بالمعنى الكلاسيكي له بل إن التنبؤ في ميكانيكا الكم يحتكم لمبدأ اللاتحديد والذي يقر بإمكانية معرفة النتيجة لواحدة من كميتين متوافقتين كالزخم أو الموقع، الزمن أو الطاقة، وهكذا.. وبالرغم من ذلك فإننا نعتبر ميكانيكا الكم من أدق النظريات التي فسرت ظواهر الطبيعة. لكن سأترك مشاكل ميكانيكا الكم إلى حلقة قادمة.
يبقى أن نؤكد بأن اللا-علم يرتبط بكل ما هو اعتقادي وبكل ما يقدم تفسيرات عن ظواهر هذا العالم تعتمد على مكونات أو اعتقادات خارجة عن هذا العالم، ولا يمكننا أن نتحقق من صحتها مهما حاولنا أن نفعل: كالتنجيم، وقراءة الطالع، والخرافة، والأشباح، وغير ذلك من خزعبلات.